الـشـيـخ طـاهـر الـنـعـسـان

مولده و نشأته:

هو طاهر بن الشيخ مصطفى بن الشيخ نعسان الحموي الشهير بورد أهله، ولهذا كان يطلق على أديبنا وإخوته وأبناء عمومته لقب النعساني الوردي.. وأما أمه فهي السيدة (خديجة بنت أحمد الشققي) .

ولد في حي الباشورة من مدينة حماة عام 1303 للهجرة الموافق عام 1887 للميلاد، وأبوه كما ذكرنا كان شيخاً ودارساً وخطاطاً وأخوه الأكبر هو عالم حماة ومفتيها وأحد أبرز دعائم نهضتها العلمية والأدبية والفكرية..محمد سعيد النعساني الذي كان شغوفاً بالعلم والتعليم والنصح والإرشاد، وكان فقيهاً وأديباً، وهو أول من أسس مدرسة أهلية في حماة، كما أسس جمعية أسماها “جمعية أعمال البر الإسلامية” التي افتتحت بضعة مدراس بإشرافه. وأسس داراً للعجزة، وله عدة مؤلفات أبرزها ” شرح التصريف الملوكي” وهو لأبي الفتح عثمان بن جني.. ولقد أسهبنا في ذكر سيرة أخيه لما له من دور في حياة أديبنا وشاعرنا …

ولقد درس شيخنا الطاهر علومه الأولية على يد أخيه محمد سعيد، وقرأ عليه القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والنحو والصرف وعلوم البلاغة، والمنطق، والحساب والحديث والتفسير وغير ذلك من العلوم في الجامع النوري في حماة، كما تعلم خط النسخ والثلث على أبيه الشيخ مصطفى الذي كان ماهراً فيهما والذي خط بيمينه مئات المصاحف الشريفة.

وحين بلغ أشدَّهُ دعي إلى الخدمة العسكرية، وأمضى فترتها،وعاد إلى حماة وصار مديراً لإحدى المدارس الابتدائية الخاصة العائدة لأخيه المفتي المرحوم، وحين وقع السفربر أو ” السفر برلك” كما كان يدْعى استدعي الشيخ طاهر ثانية إلى الخدمة العسكرية وأُخِذَ جندياً إلى لبنان مع رفاقه من طلبة العلم، وبقي طابوره في بلدة “سوق الغرب” ما يقارب الأشهر الخمسة ثم نقل إلى بلدة “عاليه” وهناك جيء بجماعة من السياسيين العرب الأحرار، وزجوا في السجن منفردين، وعلى كل واحد منهم حارس خاص له وحده، ومن الجدير بالذكر أن غالبية الجند والحراس كانت من الحمويين، وقد عين الشيخ طاهر في محطة “الحدد” من لبنان لتسلم الحبوب للطحن، ثم أرسل إلى مدينة “طرابلس” لشراء الزيت الحلو، وكانت فرصة طيبة له، إذ التقى برفيقه “قدري الكيلاني” الذي كان حينذاك مأموراً للهاتف في طرابلس من قبل الجيش، فأنزله عنده في بيته، ومكث ما يقارب الشهر يشتري الزيت، ويرسل مع الجنود إلى (عاليه)… وحين أنهى مهمته، عاد إلى عاليه نفسها لإنهاء حسابات الشراء بكل صدق ونزاهة، ثم أدخل المستشفى لمرض ألمَّ به، وخرج بعد مدة معافى سالماً.

وفي تلك الفترة أعلن الشريف “حسين” الحرب على الدولة العثمانية، واختلط الحابل بالنابل، فغادر طاهر لبنان مع صديقه قدري الكيلاني، ومن المصادفات القاسية أن الألاي /67/ أرسل إلى فلسطين، فقتل منه من قتل، وأسر من أسر، وهرب من هرب ( وطاهر وقدري في حماة )، ثم احتل الأمير فيصل سورية، وانتهى أمر العثمانيين في يوم الأحد الثالث والعشرين من ذي الحجة عام /1336/هـ الموافق للثلاثين من أيلول عام /1918/م بعد دخول “فيصل” إلى دمشق وبدء الحكم العربي في البلاد.

وبعد الاستقرار عيّن “طاهر” منشئاً للرسائل في ديوان المحافظة في حماة، ثم بدأ عهد الانتداب الفرنسي، وحين قيام الثورة الكبرى ضدها في عام /1344هـ ـ 1925م/، اشترك “طاهر” في ثورة حماة فقبض عليه، وأودع السجن، وبعد المحاكمة أعلنت براءته، وأطلق سراحه، وعاد إلى وظيفته.

 

ومع الانتخابات التي جرت في عام /1351هـ ـ 1932م/ وكانت صورة رائعة للتحدي بين الشعب وممثليه، وبين السلطة المنتدبة وأعوانها كان لأستاذنا “الشيخ طاهر” موقف جريء وعظيم ورائع قبيل موعدها حين تطوع لإرسال كشفٍ بعدد المناطق في المدينة والقرى، وعدد ناخبي كل منطقة وأسماء المشرفين والموظفين إلى المرحوم الدكتور” توفيق الشيشكلي” استقاها من ديوان المحافظة التي يعمل فيها فكان عمله الجريء هذا أكبر مفاجأة للمستعمرين ومن والاهم… (هذا الموقف مذكور بتَبَسُّطٍ في كلمة الصديق مختار الدلال).

 

وحامت الشكوك حول طاهر ثم تم نقله إلى مدينة الرقة وعين فيها من بعد قائم مقام وفي نهاية عام /1355هـ ـ 1936م/ نقل إلى بلدة “معرة النعمان” ومنها إلى مدينته حماة ولكن الإقامة لم تطل فيها فنقل إلى مدينة حلب واستقر طويلاً، وراق له هذا الاستقرار إلى أبعد مدىً.. بحيث أربت سنوات إقامته فيها على أربعة وعشرين عاماً..

ولابد لنا هنا من ذكر جانب من شخصية شاعرنا الكبير، إذ اقترن في عام /1330هـ ـ 1912م/ بالآنسة الكريمة “عائشة بنت أحمد الشققي” التي تصغره بعام واحد ليس غير، ورأى فيها الفتاة العاقلة الحكيمة ذات الدين والأخلاق، وأنجب منها ثلاث بنات وولدين اثنين،

ونعود إلى عالمنا وشاعرنا الشيخ “طاهر” لنتعرف شخصيته أكثر، فنراه قد أكبّ على دراسة الكتب وتحقيق مضامينها وقرأ دواوين الشعراء عبر تاريخنا الأدبي، وحفظ من مختارها الآلاف، وكان رائده وإمامه في ميدان الشعر” المتنبي” ويراه سيد الشعراء وشيخهم قبلاً وبعداً، ولعل من أبرز ميزاته التي انفرد بها بين الناس جميعاً هي حديثه باللغة الفصحى في البيت، والشارع، والمسجد، والمدرسة، والندوة وسواها ولايمكن أن تسمع منه حديثاً ـ مهما يكن نوعه ـ باللهجة العامية، ولقد أورد الأخ الدكتور “زهير” شيئاً من هذا من خلال حديث الشيخ طاهر مع زوجته أم زهير حين طلب منها الجِعالة لينزل القدر المحمّى من فوق النار…؟ وسألته بعفوية مطلقة:

“خيو شو هي الجِعالة..؟ وأفهمها المقصود ( وجاء في لسان العرب الجعالة: ما تنزل بـه القدر، من خرقةٍ أو غيرها، والجمع جُعْلٌ).

وإنني لأتخيل تلك السيدة الفاضلة “عائشة” زَوْجَهُ وكيف كانت تتعامل معه وهي الفتاة الصالحة وغير المثقفة، وكيف كانت تفهم كل ما يقول، والتي أُثر عنها أنها كانت ذكية ولبقة، وكانت تبذل قصارى جهدها في تربية أولادها، والعناية بزوجها، وتوفير الجو المناسب له تماماً، فقد كانت تعمل جاهدة على إبقاء كتبه وأوراقه في مكانها حتى لايضيع عليه شيء منها، وتجهد في إنامة الأولاد قبل مجيئه ليلاً ليأخذ قسطه التام من الراحة، وكانت لا تجلس معه ومع أولادهما على طاولة الطعام إطلاقاً، وإنما تبقى واقفة متيقظة لتدارك أي طلب، وتسمع بجوارحها وأحاسيسها كلمات “الطاهر” بخاصة من خلال تناوله الطعام، وهو يعظ أولاده ويمدهم بالنصائح من خلال قصص تراثية وأمثـال وأبيات شعر محفوظة، ومرتجلة… وفي أحد الأيام طلبت السيدة “سعاد” من أمها أن تجلس معهم لتناول الطعام، فأجابتها من فورها:

ـ “أبوك.. نقّاد، خلِّينا مستورين !؟؟

ولعل ـ والحديث شجون ـ من الطرائف المأثورة عن أحاديث الشيخ “طاهر” باللغة العربية الفصحى أنه قال مرة لابنه البكر “يا زهير، الناس تمشي على عجلٍ، وأنت تمشي سَبَهْلَلا..؟ (أي يمشي على مهل ولاشيء معه)، ولم يفهم زهير ومن حوله ما سمعوا حتى شرحها الشيخ لزهير وقال له : تَعَلَّمْها يا بُنَيَّ..!!

ومرة كان راكباً مع عائلته في حافلة عامة متجهة من حمص إلى دمشق، وهو يتحدث العربية الفصحى كعادته، فسألته سيدة حمصية:

ـ أستاذ.. ليش أهل حماة بسمّونا مجانين..؟!

فأجابها بهذه الكلمات:

ـ يابنيتي.. أنتُنَّ مجاذيبُ، ولستُنَّ مجانين..!!

فقالت الحمصية لصويحباتها:

ـ سمعتوا.. هيك العالم بيحكوا..!

وقصته مع صندوق الانتخابات الذي كان في الجامع النوري عام /1350هـ ـ 1931م/ والذي كان مكلفاً بحراسته ورقابته من قبل الوطنيين، والذي تعرض للاعتداء والهجوم، وقوبل بصمود الشيخ “طاهر” مع المرحوم “محمد عثمان الكيلاني” الذي استطاع بعزمه وقوته وثباته هزيمة المعتدين والنيل منهم وأُصيب “طاهر” إصابات عديدة، وهرب من كان معهما للحراسة والرقابة وحين صعد “طاهر” إلى سطح الجامـع، وجد أمامه وخلف القبة الوسطى المرحوم ” أبو السعود الكيلاني” مختبئاً فقال من فوره، وباللغة العربية الفصحى كعادته:

ـ أنت هنا يا أبا السعودْ، ونحنُ أكلناها قياماً وقعودْ..!؟

فقال له أبو السعود:

ـ لفّها شيخي.. هلَّق وقت الكلام بالنحوي، مالك شايف الموت قدّامنا ..؟!

وأذكر مرة، وقد أسعفني الزمان باللقاء مع شيخنا وشاعرنا وعالمنا “طاهر النعسان” لمرات ومرات أن أحد المتأدبين طلب منه إعارته كتاباً من مكتبته، فأجابه شعراً:

ألا يا مستعير الكتب، دعني

فإن إعارتي للكتب عارُ

فمحبوبي من الدنيا كتابٌ

فهل شاهدت محبوباً يعارُ؟!

وكان البيتان أجمل اعتذار وألطفه.

ومن الطبيعي أن أثر تعلقه باللغة العربية واطلاعه على كنوزها، وحفظه لمفرداتها، وحديثه الدائم جعل أسلوبه نثراً وشعراً ناصع البيان، قوياً، محكماً، وفيه أعداد لاحصر لها من غريب اللغة وعويصها ومهملها، والذي كان بالنسبة إليه شيئاً مستساغاً وطبيعياً ومفهوماً إلى أبعد الحدود.

وحرص شيخنا “الطاهر” على لباس الطربوش ملفوفاً بلفة بيضاء، مع حرصه أيضاً على اللباس الإفرنجي، وكان أنيقاً في ملبسه ومأكله واستخدامه العصا في خلال مشيته، وكان ميالاً إلى الطول، وليس بالنحيل وليس بالبدين.

وفاته:

أصيب في أواخر أيامه بمرض خبيث لم يمكنه من تدوين كل شعره، مع شرح كلماته الغريبة فلقي وجه ربه في مدينته حماة فجر السبت الثاني عشر من ربيع الثاني عام /1381هـ/ الموافق للثالث والعشرين من أيلول عام /1961/ عن أربعة وسبعين عاماً، ودفن في مقبرة باب البلد بعد تشييعه في موكب مهيب حاشد.

 

آثاره :

خلَّفَ شيخنا الطاهر عدة أسفارٍ وأبرزها :

1 ـ مختصر كتاب “سيرة عمر بن الخطاب” للأمير الفارس أسامة بن منقذ “وأصل الكتاب لابن الجوزي وقد حققه بالاشتراك مع صديقه المؤرخ “أحمد قدري الكيلاني” وطبع لأول مرة في مصر.

2 ـ تحقيق كتاب “تاريخ الرقة ومن نزلها من أصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم والتابعين والفقهاء والمحدثين “لأبي علي محمد بن سعيد بن عبد الرحمن القشيري الحراني الحافظ” المتوفى سنة /334هـ/ ونشره لأول مرة عن مخطوطة المكتبة الظاهرية في دمشق، وطبع في مطبعة الإصلاح في حماة.

3 ـ أسامة بن منقذ الشيزري.. وأصل الكتاب محاضرة كان ألقاها في المجمع العلمي العربي في دمشق ثم أثبتها في كتاب مستقل، وطبع في مطبعة الإصلاح في حماة.

4 ـ تحقيق كتاب “الحلى” للشيخ أبي عبد الله محمد بن جعفر القزّاز التميمي النحوي” المتوفى سنة /412هـ/ عن نسخة مخطوطة قديمة موجودة في مكتبة السيد “أحمد الحسيني” المصري، وقد حققه بالاشتراك مع صديقه المؤرخ أحمد قدري الكيلاني “وطبع في مطبعة الإصلاح في حماة.

5 ـ مئات من المقالات الأدبية والاجتماعية والسياسية نشرت في مجلة (المقتطف) ومجلة (الهلال) المصريتين، ومجلة (العرفان) الصيداوية اللبنانية، ومجلة (الوحي)، ومجلة (النواعير) الحمويتين، وفي غيرها، ولو جمع ماكتبه فيها لكان كتاباً ضخماً.

وأما مخطوطاته، فلديه اثنتان بحسب علمي، وهما:

1 ـ ديوان “طاهر النعسان” الذي جمع مُتَفَرَّقَهُ بنفسه في أيام مرضه الأخير، وهو على ما نعلم جزء مما نظم وأبدع، فهناك الكثير من القصائد والمقطوعات التي يمكن أن تشكل ديواناً ثانياً لو قام بجمعه أبناء نجله (زياد) أولاً لأن مكتبته في حوزتهم، وابنته سعاد وهي المهتمة بتراث أبيها ثانياً، وصهره، أستاذنا المربي الكبير (هاشم الصيادي) لاطلاعه التام على تراث عمه ثالثاً وأخيراً … وهذا الديوان المجموع هو الذي أخذ طريقه إلى النشر، وغدا بين يديك عزيزي القارئ..

2 ـ كتاب “هند بنت عتبة” ـ أم معاوية: وهو سيرة هذه الفتاة التي خلفت في مسمع التاريخ دويّاً هائلاً، يقع في /232/ صفحة، واستقى مادته من /51/ مصدراً ومرجعاً عدا الكتب المخطوطة وقد كتب على ظهره هذين البيتين:

يقولون:

سعدى لها الحسن وحدها

ألم ترنا في ذكرها كلنا نشدو

فقلت: دعوا سعدى وليلى وزينبا

بلى.. واهتفوا: ماكل غانية هند

3 ـ كلمة في الديوان

يقول شاعرنا عن شعره :

إذا أنا لم أنظمْ من الشعرِ مابه

ابــتكارٌ،إذاً فالنظمُ تحصيلُ حاصلِ

وما أنا ممَّنْ ينظمُ الشِعرَ مادحاً

أخاجِدَةٍ أرجو بهِ نَيْلَ نائِلِ

تَجَنَّبْتُ هاتيكَ الطريقَ،ولم أكن

لأنزِعَ في الأشعارِ نَزْعَ الأوائلِ

فَعِبْتُ على شيخِ القريضِ..إمامِنا

“أبي الطيِّبِ” استجداءَهُ كفَّ ناحِلِ

ذاك هو رأيه في شعره وقبل كل شيء، إن صاحب الديوان شيخ، وإمام ولغوي، ومؤرخ ومحقِّقْ ومتحدِّثْ باللغة العربية مع العامة والخاصة على حد سواء، وحتى مع أهل بيته، ولربما يعتقد الكثيرون أن هذه الصفات جميعاً كانت هي التي صبغت شعره بطابعها الخاص، فطغت على شخصيته، ومنازعها وعصره، وأحداثه… ولكن الذي يشرع في قراءة الديوان ويغرق في لججه يجد أن “طاهر النعسان” موجود فعلاً ومنفعلٌ فيما يدور حوله في الإطارين الخاص والعام.. حتى لتتبين أن شاعرنا موجود فعلاً في حماة والرقة ومعرة النعمان وحلب، وأنه متعرف إلى كبار رجال العلم والأدب والحكم والسياسة في سورية وغيرها من الشقيقات العربيات..

فحماة، مدينته، ومدينة آبائه وأجداده، يعرف فضلها وهي تزهو بالحسنيين: مائها وهوائها، وبها قضى أجمل أيام شبابه، وعاش منعماً في أرجائها.. وفي ذلك يقول في قصيدة “تهنئة بالشفاء” التي أرسلها من “صوفر” في لبنان إلى مدينة أبي الفداء مهنئاً بشفاء ابن أخيه ” محمد المهدي”:

أحماةُ، يابلداً عرفنا فضلَهُ

وزها بحسنِ هوائِهِ، وبمائِهِ

وبِهِ قضيْتُ منَ الشَّبابِ أنيقَهُ

ونعمْتُ حين أقَمْتُ في أرجائِهِ

ويبلغ الذروة حباً وحناناً وتعلقاً بمدينة النواعير في قصيدة “البائية الوداعية أو شكوى الزمن” التي نظمها في (عاليه ـ لبنان) وأرسلها إلى صديقه السيد “نورس الكيلاني” أبي الحسن ـ متذكّراً من خلالها جسر بيت الشيخ وجيرانه، ونواعيره التي تنفي الهموم وتطرد الكرب بأنينها وزفراتها ، فكم وقف خاشعاً يناجي الطبيعة وينظر إلى البحيرة ما بين الجسر وبين سد النواعير، والمياه تنصب فيها معجلة، فتجذبه مناظرها بفتنتها وجمالها ويتذكر كم أفنى بفناء قصر صديقه “نورس”كل غم وكرب …….

ومن حوله النواعير التي تمحو العناء من الصدر بمنظرها ونعيرها على الرغم من أنها أخشاب منضدة، وفي الغرب من القصر تتشامخ آثار البطل ” نور الدين محمود زنكي” الملقب بالشهيد، والتي شيدها في سبيل العلم والدين والطب، ولكن بعض أوقافها قد غدا أطلالاً بالية بعد أن عدا عليها الجائرون وبدلوا معالمها ولهذا.. راح شاعرنا في غمره الذكرى يرسل العبرات مهراقة غزاراُ وقال:

تذكرْتُ ذاك الجسرَ والجيرةَ الأُلى

بنوا من صريح المجد ما أعجز الحُقْبا

نواعيرُهُ ينفي الهمومَ صريرُها

وتوقيعُها، ياطالما طردَ الكَرْبا

فكم لي بذاك الجسرِ وقفةُ خاشعٍ

أُناجي بها تلك الطبيعةَ مُنْكَبّا

بُحَيْرَتُهُ ازدانَتْ سَناءً وبهجةً

بسفحٍ عليها صبَّ من مائِهِ صبّا

فللَّهِ ذاك السفحُ كَمْ رحتُ رَيِّضاً

به الفكرَ تُدْنيني مناظرُهُ جَذْبا

وكمْ بفناءِ القصرِ أَفْنَيْتُ غُمَّتي

ورحتُ بجيشِ الصفوِ أطرُدُها وَثْبا

وفي الصَّدْرِ أمحو من عنا الصَّدرِ إذْ بِهِ

نواعيرُهُ تبدو منضَّدةً خُشْبا

وآثارُ نورِ الدِّين تبدو رفيعةً

أرادَ بها التعليمَ والدِّينَ والطِّبَّا

فللَّهِ أوقافٌ لها قد شَهِدْتُها

بأيدي البِلى والجائرينَ غدتْ نَهْبا

تذكَّرْتُها في غُربتي فبكيْتُها

وأرْسَلْتُ دمْعاً فاضَ وابِلُهُ سَكْبا

على أن هناك جانباً ينبغي لنا ألا نغفله،ألا وهو مشاركة شاعرنا ” الطاهر ” ذيول عصور الدول المتتابعة في بعض فنونها وزخارفها،وبخاصة التشطير،والتطريز،والتأريخ الشعري وما إلى ذلك وكان فيها مجليّاً وقادراً،ناهيك بالطرافة وخفة الروح في عرض بعض الموضوعات الاجتماعية كما هو الحال في قصائد:الشيخ المتصابي ـ عمامة وصالح ـ زينب في المدينة… وها هوذا يقول في الشيخ الحمصي المتصابي الذي طلب معونة محافظ حماة للزواج بفتاة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها :

أبعد طَعْنِكَ في سنِّ الثّمانينِ

تبغي زواجَ فتاةٍ في الثلاثينِ ؟ !

أما علمتَ بأن الشيبَ مرحلةٌ

تُزري بصاحبها في أعْيُنِ العينِ ؟ !

أما علمتَ بأنَّ الشيبَ مدرجَةٌ

إلى اللّحودِ ، وتغسيلٍ ، وتكفينِ ؟ !

الكلُّ في غَمْرةٍ ، تلقاه مكتئِباً

وأنتَ بالعُرسِ لاهٍ غيرُ محزونِ

تقولُ : شعبان أرجو أن أُزَفُّ بهِ

يا شؤمَهُ مِنْ زفافٍ غيرِ مَيْمونِ

ما حيلتي بإمريءٍ في الغَيِّ منغمسٍ

للجهلِ منتسبٍ ، بالنّكحِ مفتونِ

فَعِشْ بربِّكَ فرداً غيرَ مقترنٍ

فلستَ تنعَمُ إلا غيرَ مقرونِ ؟ !

وثمة ناحية مهمة للغاية،وهي قدرة شاعرنا على الارتجال والنظم في كل موضوع،بحيث كان يستطيع أن يلقي قصيدة كاملة مرتجلاً،من دون أي تحضير مسبق،ومن أمثالها في الديوان قصائد : المثنيات – من شعر الحداثة – السوانح والبوارح – الحكم – ذكرى الشباب – مشاعر تلميذة نحو مديرتها – من الأمالي – إلى الكمال – مسجد الفيض – سلوى الحوماني – كوثر – سعاد – مفردات – أقدر … وغيرها… وهذه لعمري دليل واضح على رهافة الأنغام الشعرية في أذنيه،وغزارة الألفاظ في ذاكرته،وجلاء المعاني والأفكار في قلبه،ورحابة آفاق الخيال في خاطره… ونقتطف منها من الحكم قوله :

لا تأسفَنَّ عل مالٍ يفوتُك في

حينٍ ولا تحفِلَنْ إنْ جاءَ أو ذَهَبا

قد أشبَهَ الطائِرَ الغرّيدَ منتقِلاً

بينَ السُّفوحِ ، وفوقَ القمَّةِ انْتَصَبا

في سُرعةِ البَرْقِ إقبالاً ، وخِفَّتُهُ

عندَ البَراحِ يَغِذُّ السَّيْرَ مُغْتَرِبا

وقوله من شعر الحداثة :

قُلْ للذي إن تَبَدّى أخجلَ القَمَرا

واصِلْ محبّاً يُقضّي ليلَهُ سَهَرا

فإنْ أصرَّ على هجري فقلْ : دَنِفٌ

يرجوكَ صَفْحاً ، وها قد جاءَ مُعْتَذِرا

ولنا أخيراً أن نوجه الأنظار إلى المقدمات والإشارات والحواشي النثرية التي ساقها شاعرنا في مقدمات عديد من قصائده وشروحها،والتي نشيد بها لأنها تشكل سجلاً تاريخياً وسياسياً واجتماعياً كتب بقلم شاهد صدق عدل عن مرحلة من أهم مراحل تاريخنا العربي المعاصر بعامة وسورية ومدينة حماة بخاصة .

 

وبعد…

تلك هي نظرة عجلى في حياة أستاذنا وباحثنا وشاعرنا الأديب المحقق المرحوم الشيخ ” طاهر النعسان ” وشعره ، رأينا من خلالها كيف عانى ، وكيف تعلَّمَ،وكيف نهل مـن ينابيع الثقافة والمعرفة… ورأينا ما أبدع في رياض القريض من موضوعات كان في معظمها مستحكَمَ الملكة ، مُرَوَّض القريحة ، متشبِّعاً بالفن ، مُتقناً للصنعة الشعرية ، وحسبه من الشهود الإتقان والإحسان ، وأنه كان صورة حيّة نابضة لحياته ، ومجتمعه ، ووطنه ، وقوميته ، وإسلامه… وهذه وحدها كافية لتضعه في مصاف الشعراء المجيدين والمبدعين في النصف الأول من القرن العشرين …ولذا لا نعجب من قوله :

هذا هو الشِّعرُ أُصفيهِ وأنظِمُهُ

ذَوْباً لعاطفةٍ جيّاشَةِ الضَّرَمِ

القَلْبُ والطَّبْعُ في تأليفِهِ اشترَكا

سُداهُ في عِظَةٍ تجري مع اللُّحَم


كاتب الترجمة: الأستاذ وليد قنباز

نقلاً عن صفحة الأستاذ وليد قنباز