الشيخ أمين مصطفى كيلاني

مولده و نشأته:
– نسبه:

هو العلامة الشيخ المؤرخ الأديب الشاعر الخطيب أبو مروان أمين بن مصطفى زين الدين الكيلاني الحموي.

ولد في مدينة حماة العريقة، ونشأ بها، في أسرة عريقة ذات حسب ونسب وعلم وفضل وأدب.

توفيَ والده ولم يكد يتم السنة الثالثة من عمره، فنشأ يتيماً، فقامت أمه بتربيته والعناية به، واستطاع بصبره وجلده أن يتغلب على اليأس والعقبات ومصاعب الحياة.

 

دراسته:

تلقى تعليمه في حماة في المرحلة الابتدائية في مدرسة ( عنوان النجاح)،وهي إحدى مدارس جمعية أعمال البر الإسلامية، التي كان يقوم بإدارتها صاحب الفضيلة مفتي حماة الشيخ محمد سعيد النعساني. ثم دخل المدرسة الإعدادية التركية، ونال شهادتها، ثم انتقل إلى دمشق لإكمال تحصيله الدراسي في مدرسة عنبر التركية الثانوية، وقبل انتهاء دراسته قامت الحرب الكبرى (1914) فدعي إلى الجندية برتبة ضابط احتياطي، فانتظم في سلك الضباط، في الجيش العثماني،ثم التحق بالجيش العربي عند اندلاع الثورة العربية الكبرى ( 1916 م ) برتبة ضابط.

 

جهاده وشجاعته:

كان مرافقاً للقائد علي جودة الأيوبي العراقي،الذي كان لثقته به واعتماده عليه لا يقطع رأياً، ولا يبرم أمراً دونه. وفي تشرين الأول من سنة (1918) كان في طليعة الجيش العربي الذي دخل حماة، واستقبل فيها بحفاوة وحماس وإكرام.

خاض المعارك الحربية،وارتقى إلى رتبة ملازم أول، واشترك في معركة (تلكلخ) يوم الاحتلال الفرنسي، في ( 24 ) تموز من عام ( 1920 م )، وأبدى شجاعة مشهودة، واشترك في معركة ميسلون عام (1920 م )، بقيادة البطل يوسف العظمة،وبعد دخول الفرنسيين إلى سورية، هجر الجيش واستقال منه.

انصرافه للدراسة والعلم:

انصرف للدراسة والعلم، ووهب حياته لخدمة العلم وطلابه، وشارك في النهضة التمثيلية بحماة ( 1920ـ “1925 م”1925 م )، فكتب لها قصصاً وروايات تمثيلية رائعة، طبع أكثرها.. فقد كان متعدد المواهب، أديباً ومؤرخاً، وشاعراً وخطيباً مفوهاً، وروائياً وموسيقياً.

طلبه العلم الشرعي:

[ وفي سنة (1933)، تعمم بالعمامة البيضاء، وبدا له أن يدرس العلوم الشرعية، فتلقى الحديث والتفسير والفقه والأصول على صاحب الفضيلة مفتي حماة الشيخ محمد سعيد النعساني، وبمدة وجيزة حذق هذه العلوم، وتدرج فيها، وطفق يدرسها ويطالع ويلخص، ويلقي الدروس في الزاوية الكيلانية، وتولى الخطابة المنبرية في جامع الشيخ إبراهيم في حي الحاضر، فاتَّجهت إليه الأنظار، وغصَّ المسجد ورحباته الواسعة بالمصلين أيام الجمع، وكلٌّ متشوِّق لسماع درر ألفاظه ووعظه، وهو لا يترك موضوعاً يتعلق بالمصلحة العامة إلا وطرقه، وتكلم عنه بصراحة وجرأة من فوق منبره، وقد شجعه إخوانه الخلّص ورحبوا بفكرته وعمله، وكانوا ينتظرون له مقاماً رفيعاً، وكان إذا اجتمع إلى أقاربه يبعث فيهم روح النشاط، ويدعوهم أن ينهجوا مناهج العلم].

عمله ووظائفه وأثره في الدعوة والتربية والتعليم:

عين أستاذاً للغة العربية في مدرسة دار التربية والتعليم الوطنية بحماة عام(1920) ، وبقي فيها أربعة عشر عاماً بذل فيها من الجهود ما كان له أثر فعال في إنعاش المدرسة وتقدمها، وفي سنة (1934) عين مدرساً في تجهيز حماة، وبقي فيها ثلاث سنوات، وفي سنة(1937) عين مدرساً للعربية في المدرسة التجهيزية ( المأمون ) بحلب، ثم لم يلبث أن نقل إلى المدرسة التجهيزية للإناث، أستاذاً للعربية في صفوفها العالية، ثم طلبته المدرسة الفاروقية سنة (1941) مدرساً للآداب العربية في صفوفها العالية، وطلبته المدرسة الخسروية في أوائل عام (1941)، معلماً لدروس الإنشاء في بعض صفوفها، فأحدث تطوراً في تلاميذها، وهو بالرغم من تكاثر التدريس عليه في المدارس، ما كان يفتر عن المطالعة والكتابة، والخطابة في النوادي والمساجد التي يُدعى إليها.

[يقول الأستاذ الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري في كلمته التي ألقاها في رثائه بعنوان:” عبرة الموت وعمل العاملين”:” كنت ترى الأستاذ أمين الكيلاني يساهم في كل مشروع خيري إسلامي، يرجى من ورائه نفع عام، فهو يعمل في جمعية البر، ويلقي الدروس الإسلامية التوجيهية النافعة على أعضاء الفرع العلمي في دار الأرقم وجلهم من الطلاب، فيحدث في نفوسهم أثراً فعّالاً، ويجلو لعقولهم نقاطاً هامة أغفلتها مناهجهم المدرسيّة، وتربيتهم البيتيّة، وهو يلقي المحاضرات القيمة في شتى المناسبات…ولا أنسى يوم كلف، بل قد انتدب نفسه لإلقاء بعض الخطب الجمعية بحلب، فابتدأ ذلك بجامع (بانقوسا)، وتكلم بجرأة غير معهودة، معالجاً وضع البلاد الإسلامية من المستعمرين، وواجب المسلمين حيال ذلك، حتى أبكى المستمعين، وولَّد فيهم يقظةً وانتباهاً لو قيض الله لهم من يبعثهما كل يوم جمعة من كل أسبوع لرأيت الناس غير الناس..”

 

ويقول تلميذه الشيخ طاهر خير الله في كلمة طلاب الخسروية بعنوان:” الفقيد في مدرسة الخسروية”:” كان لأستاذنا الفقيد علم غزير، وأدب غض رائع، وكان في طليعة الأساتذة المحبوبين بدروسهم وتدريسهم عند الطلاب… فمتى حان ميعاد درسه تهافت الطلاب عليه ليجنوا من ثمرات آدابه وأفكاره النضيجة ما نحن فقراء إليه، فإذا شرع يتكلم فلا تسمع صوتاً ولا همساً، كأنَّ على رؤوسهم الطير، فكان كلامه نوع من السحر الحلال، فهو ينثر حافظته نثراً محكماً، يتكلم برويَّة، ويفهم بدقة، ويرتب بجمال… وهكذا كان أمل مدرستنا به لامعاً: عندما عرفناه أستاذاً فيها لأول مرة هذه السنة، فاستفادت منه في شهور ما يعادل أعواماً..”

 

وقال تلميذه الأستاذ سليم عقيل في كلمة طلاب التجهيز:” لقد كان أستاذنا رحمه الله يلهم طلابه بأفعاله وأقواله معالي الأمور وأسمى الغايات، ويهبهم كل ما يعلم ليحقق بهم أمله الباسم في المستقبل، وليكون منهم علماء حقاً لا حملة شهادات..”]انتهى.

 

أقرانه وزملاؤه:

كان من زملائه في التدريس: الأستاذ الشاعر الكبير بدر الدين الحامد، والأستاذ الشاعر الكبير عمر يحيى، والدكتور محمد أسعد طلس،والدكتور خليل الهنداوي، والدكتور الأديب الروائي شكيب الجابري، والعلامة الشيخ محمد جميل العقاد، والعلامة المتفنن في العلوم الشيخ مصطفى الزرقاء، رحمهم الله جميعاً.

 

مؤلفاته وآثاره:

ترك رحمه الله عزَّ وجل ـ رغم فراغه الضيق، وعمله الشاق، وأجله المباغت ـ آثاراً جليلة، و مؤلفات كثيرة , بعضها مطبوع، وأكثرها مخطوط، فالمطبوع منها:

1ـ روايات وادي موسى ( جزءان )،

2ـ واقعة الحسا،

3ـ واقعة معان،

4ـ حول الحمى،

5ـ يا فتى العرب،

6ـ جد بالطلب،

7ـ سر فبالتعب تبلغ الأمل، وكلها مطبوعة في حلب عام ( 1920 م ).

وتدور أحداثها حول معارك الثورة العربية، بقيادة الملك فيصل.

8ـ رواية علي بك ( فكاهية هزلية) , طبعت في حماه.

9ـ دروس التاريخ، وهو جزآن طبع في حماه سنة (1929)،

10ـ منهج القراءة الجديد،

11ـ قواعد التحرير والإملاء، وهي كتب مدرسية مطبوعة أيضاً.

وما زال مخطوطاً من كتبه مجموعات كبيرة، في الأدب والتاريخ والتراجم والسياسة، ومنها مقالات له، كان ينشرها في جريدة القبس بدمشق، تحت عنوان:( الزفرات )، وهي مقالات سياسية كتبها بأسلوب فكاهي نشرت بتوقيع أبي مروان،وله شعر وأناشيد حماسية.ويمكن تصنيف مخلفاته المخطوطة إلى ثلاث زمر كبرى: تاريخيه، وأدبية، وسياسية.

فالتاريخية: تشتمل على أكثر من (6) مجلدات، وتقع في (2454) صفحة.

والأدبية: تحتوي على  (7) مجلدات , وتقع في ( 2624)صفحة.

أما السياسية: فتبلغ ( 17 ) مجلداً، وتقع في ( 6604 ) صفحات.. وتضم هذه الأسفار بين صحائفها أدباً رائعاً، ووثائق نادرة، وأنباء هامة، و تراجم لبعض الرجال الكبار من عرب وغربيين، ومنها مقتطفات عن المثل السائر، لابن الأثير، وتاريخ الإنشاء والخطابة منذ مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، منقول عن الطبري، ومنتخبات مقتبسة من كتاب البيان والتبيين للجاحظ، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وعيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري، ومنها كتاب المخصص لابن سيده، في مجلد بلغ ( 713 ) صفحة ولم يتمه، وترجم التاريخ العام، للمؤرخ التركي المشهور رفيق بك، في جزئين.

أما مخطوطاته السياسية، فتتعلق بجميع الحوادث وخاصة العربية والفلسطينية، و ما قيل أو كتب عنها، وصور عن المعاهدات والاتفاقيات وسوى ذلك، وجميعها معزوة لمصادرها بدقة متناهية، تعطي ما كتبه صورة الوثائق. وكأنه أراد بوضع هذه المجلدات المقتطفة أن تكون له ذخيرة يرجع إليها إذا هو قام بإنشاء جريدة أو مجلة علمية أدبية سياسية، لتكون لديه مادة ومعيناً لا ينضب.

فنونه:

كان الشيخ متفنناً في العلوم، فقد جمع بين العلم والأدب والشعر والخطابة والفن والموسيقى، فقد تلقى الدروس الموسيقية على الأستاذ الفنان أحمد الابري الحلبي، ثم تابع دروسه الموسيقية على الموسيقار التركي المولوي حسن البصري، وتعلم العزف على العود والطنبور، وتوسع في دراسة الفن الموسيقى، من جميع نواحيه، فكان عليماً بالتنويط والنغمات والأوزان، حتى أصبح فناناً ممتازاً وعازفاً بارعاً،

وكانت ألحانه في غاية الرقة والإبداع والانسجام، ومنها النشيد الذي نظمه شاعر العاصي الأستاذ بدر الدين الحامد، بمناسبة حفلة تأبين الشيخ الشهيد خالد الخطيب، بتاريخ الثالث من شهر آذار عام “1933 م”1933 م )، ومطلعه:

يا فقيداً لا توفــــيه العيون حــقه بالسهد والدمع الهتون

نحن من بعدك في أيدي الشجون نذكر الأيـــام والذكرى فنون

فكان لحناً شجياً مؤثراً..

لقد جمع أحسن التأليف الموسيقية، من عربية وتركية وغربية، واقتنى أثمن الآلات الموسيقية، على الرغم من ضيق الحال وقد بلغ ثمن الآلات الموسيقية التي اشتراها خمسين ليرة ذهبية، ثم بدا له أن يترك هذا الميل، ويتجه إلى العلوم الدينية، وتعمم سنة 1933..

أوصافه:

كان رحمه الله تعالى مهيباً مبتسماً، كريماً صبوراً، صريحاً جريئاً، يكره التملق والنفاق والرياء،وكان دراكاً طموحاً، يحب أن يكون سباقاً، ويعمل على ألا يُلحق، والناظر إلى بريق عينيه، وانتصاب قامته، وحيويته، والسامع للهجته العذبة، وكلماته الموزونة، ومنطقه القويم يدرك ما تمتاز به شخصيته من بداهة التفكير، وصدق اللهجة، وقوة العزيمة.

كان رحمه الله عاملاً مجاهداً، لا يفتُر ولا يستريح، يصرف جميع أوقاته بعد دروسه ليلاً ونهاراً في عمل عام أو علمي…

دوره في مؤتمر العلماء، وفي مشروع توحيد المدارس الدينية:

[قال الأستاذ العلامة مصطفى الزرقا:”عندما انعقد مؤتمر العلماء بدمشق سنة 1357هـ = 1938م، كان هو أحد أعضاء وفد حلب فيه معنا، فوجد المؤتمر فيه خير مفكر، وكنا نجد في مواهبه العون الكبير في تسيير أعمال المؤتمر.

ولما ألفت دائرة أوقاف حلب منذ أربع سنوات لجنة من علماء الشرع ورجال المعارف والإدارة لتضع مشروع نظام لتوحيد المدارس الدينية، وتنظيم الدراسة فيها، ليتكون منها معهدان شرعيان: أحدهما: تجهيزي، والآخر: عال، كان الفقيد الأمين رحمه الله تعالى معنا أحد أركان هذه اللجنة، التي وضعت ذلك النظام الموؤد، ورتبت برنامجه المفؤد، بل كان الدماغ المفكر في هذه اللجنة، وصاحب الرأي السديد،..

ومن أعظم ما يسجل له من المزايا والشهامة والجرأة النادرة في سبيل المصلحة والحق، أننا كلمنا انتدبناه ليكون معنا في مراجعة للمراجع العليا من السلطات المحتلة أو الحكومة المحلية عندما نحتاج في هذه الوفود إلى من يجيد الكلام، ويحسن تمثيل علماء الدين، كان على رأس المبادرين.. ولم يكن رحمه الله في شيء من ذلك يحاول التملص أو التأخر أو التلكؤ رغم أنه موظف في ملاك الحكومة، ولا تجد موظفاً يذهب في وفد محتج أو مراجع، ولكن الفقيد الأمين كان يرى أن وظيفته يجب أن تكون تحت قدمي واجبه العام على كونه مقلاً في دنياه، ضيق ذات اليد، غير مُسْتغن عن راتب وظيفته”انتهى].

وفاته ومراثيه:

في اليوم الثالث من شهر شوال، بعد عيد الفطر سنة ( 1361 هـ ) الموافق للثالث عشر من شهر تشرين الثاني لعام ( 1942 م ) فاضت روح الشيخ إلى بارئها، وانتقل إلى رحمة الله، مأسوفاً ومحزوناً عليه من كل من عرفه، وتسابق الشعراء والخطباء إلى رثائه، ومنهم صديقه رجل القانون والقضاء النزيه، الأستاذ الشاعر إبراهيم العظم، حيث قال في قصيدة رائعة في 49 بيتاً، ومنها قوله:

نفد الدمع في رثاء الغــوالي ما لعيني وللدموع ومالي

كل يوم تشجى القلوب بغالٍ حسبنا الله من فراق الغوالي

يا شباباً ذوى طــوته المنايا آه منهنّ ما طوت من خلال

ومثالا من الكمال عليـاً ما له في شبابنا من مثال

وإذا الخطب بالنعي مهيب أن أصابت أمين عين الكمال

أمل ضائع تحوم عليه طائرات القلوب والآمال

ولحن الفنان أحمد الابري قصيدة من نظم السيد إبراهيم العظم، يوم حفلة تأبينه، مطلعها:

شرقت بالدمع عين الناظرين حينما قالوا قضى الغالي أمين

غمر الوادي حزن صدعت منه في الوادي قلوب وعيون

[ورثاه صديقه الشاعر الكبير الأستاذ عمر يحيى بقصيدة رائعة في 54 بيتاً، نقتطف منها:

نام عن شجوه وعن أحلامه وهو ما ض في سعيه واعتزامه

ما درى أن عمره ومناه بـــين همس ورعشة في منامه

إيه يا دهر قد ظفـرت بحر طـالمـا جـدّ في بلوغ مرامه

يا غريباً أبقى أخاه غريبا يعلم الله ما مـــدى آلامه

خلِّ عيني ودمعها فقليلٌ لك دمع العيون في تسجامه

ما حمدنا ريب المنون مطيفاً بالنبوغ المرجو قبل تمامه

ورثاه صديقه شاعر العاصي الأستاذ بدر الدين الحامد، في قصيدة من 41بيتاً، جاء فيها:

قيل لي مات قلت: كيف يموت أمل مشرق وعلم وصيت

وشباب في العين ورد نضير في تضاعيفه جرى الياقوت

يا عظيم الإيمان لُقّيت خيرا< SPAN> بالرضا عنك أزلف الملكوت

كم مقام رفعت صوتك فيه لا تبالي ما يمكر الطاغوت

كنت للدين ناصراً في زمان ناصر الحق والهدى ممقوت

أنت أصبحت في الجنان طليقاً طبت ميتاً فلا تقل لو بقيت

ورثاه الأستاذ الأديب محمد الحريري بقصيدة جاء فيها:

يا خير معتم فديت عمامة يختار منها للضحى إكليل

أيدتها بالزهد حتى أصبحت والزهد مرتبط بها موصول

قد كنت تقنع بالقليل كأنه جزل فيعطيك الكثيرَ قلـــيلُ

يا قبر قد جادك كل يوم مربع وجرى عليك من النسيم عليل

قبر تجلل بالضياء كأنمـــا أفضى إليه من السنا قنديل

فاهدأ به بالاً وقرَّ نواظراً فإليك منه على الخلود سبيل

ورثاه صديقه العلامة الكبير الشيخ مصطفى الزرقاء، نثراً وشعراً،وقال في خطبته التي ارتجلها في نادي جمعية البر والأخلاق: ” لقد وجدنا فيه مثال العالم النيِّر، البصير الخبير، الأديب الكاتب الخطيب البليغ، المجلي في كل ميدان…

إذا عرضت السياسة فسياسي خبير بصير، محلل للأمور، متفرس في العواقب بأصدق فراسة.

وإذا أثيرت المسائل الاجتماعية، وجدت منه الاجتماعي المجرِّب، الملم بشؤون المجتمع وعوامله ومؤثراته وأدوائه وأدويته..”

ثم قال:” لمن نرثي بفقدك يا أمين؟ أنرثي للعلم، أم للأدب، أم للأخلاق، أم لحياة الجد والعمل النافع، أم للذكاء البارع والفهم الناصع، أم لطلاب تركتها حيرى وقد راعها سقوط راعيها.؟!!

لقد فقدنا أنفسنا بفقدك، وليست حماة بأحق بالحزن عليك من الشهباء، ولا أهلك وأسرتك بأعظم مصاباً في فقدك منا.

ولا أعتقد أن هذا السلك العلمي المفتقر إلى أمثالك سيجد الخلف عنك في الزمن اليسير، أو سيعتاض عنك وحدك بالعدد الكثير.

رحمك الله يا أمين رحمة واسعة، وجعل في حياتك خير قدوة لطلابك الذين فتحت لهم أبصارهم على نور وسرت بهم بسيرة الإسلام الصحيح، والعقل الرجيح”]انتهى.

ووصفه أيضاً في ديوانه:”قوس قزح” الذي أصدره في أواخر عمره بقوله:” فقيد الإسلام والعلم والأدب والأخلاق”، وكان مما قاله عنه:”كان أخونا الأستاذ الشيخ أمين الكيلاني الحموي رحمه الله، أستاذاً للأدب العربي في المدرسة الثانوية الرسمية بمدينة حماة، ثم نقل إلى المدرسة الثانوية في حلب، واستقر فيها أستاذاً مثالياً في مواهبه وعلمه وجديته، حتى وافاه أجله، فكان نبأ وفاته المفاجئة المبكرة، وهو في عنفوان نضجه وقدرته على العطاء العلمي والفكري والتربوي، وفي ظرف كانت الأمة فيه أشد ما تكون حاجة إلى مثله، كان نبأ وفاته كصاعقة نزلت على كل عارفيه في حماة وحلب، فأذهلتهم، لما كان يتحلى به رحمه الله من مواهب نادرة وأخلاق كريمة، فقد جمع بين علوم الشريعة والعربية والأدب، وكان كاتباً بليغاً، وخطيباً مفوهاً، حسن الحديث، حلو الفكاهة، كما كان مشاركاً في الشؤون العامة وفي القضايا الوطنية، وحركات المقاومة للاستعمار الفرنسي، خلال اشتداد وطأته في سورية ولبنان، وكان بصيراً في السياسة وأساليبها وألاعيبها، ذلك إلى سرعة بديهة وذكاء متقد، وحسن تحليل للمواقف السياسية الخاصة والعامة وتوقعاتها، وإلى استعداد تام للتضحية في سبيل الواجب الإسلامي والوطني.

ومنذ انتقاله إلى التدريس في حلب، لحظ مخالطوه وكل من اتصل به هذه المزايا فيه، فشاعت عنه، وأصبح له مكانة مرموقة لدى معارفه، وتقدير متميز بين حملة الفكر الإسلامي، ودعاة الإصلاح الديني والاجتماعي، وقادة حركة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، وعمل معنا في هذه السبل بصدق وإخلاص.

وقد أقيمت له في ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته، حفلتان تأبينيتان، أولاهما في حلب حيث توفي، أقامتها جمعية البر والأخلاق الإسلامية، وثانيتها في مدينة حماة مسقط رأسه، وكنت أنا مشاركاً في تأبينه بكلمة نوهت فيها بمآثره، وأثر المصاب الكبير بفقده، وختمتها بالقصيدة التالية، ونشرت في مجلة الجامعة الإسلامية التي تصدر في حلب، في العدد / 111 / الذي صدر خاصاً عن وقائع حفلة التأبين وما ألقي فيها عن الفقيد رحمه الله.. انتهى كلام الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله، وهذه بعض الأبيات من قصيدته، والتي بلغت( 27) بيتاً:

مضى فاستعبر الأدب الغـريض وجـفن العلم منكسر مريض

ينازعنا الرثاء لـــه قريـضاً ودون قريضنا حال الجريض

به آمالنا قد كــــن أوجاً فهن اليوم من ثكل حضيض

تقوض شــاهق، وانهد ركن بفقدك يا أميــــن ولا معيض

بنفسي لو لنفسك من فـداء نهى بكر، وفـــكر لا يغيض

وعــلم تشرق الآراء فيـه على جنبـــــــاته عقل يفيض

تشف به الحقائق عاريـات ويعجزهـــا بساحته الغموض

[ورثاه الأستاذ الأميري في كلمة دار الأرقم بقوله:” لقد مات أمين الكيلاني فماذا مات بموته؟ مات الرجل المسلم الفعَّال الذي لا يضيع وقتاً، ولا يعرف كللاً، ولا يخيب طلباً، مات الرجل الذي لا يهمه ما يقال عنه تجاه تحقيق مبدئه، ولا يبالي أين يتكلم ما دام يدعو إلى الخير ويتكلم الصواب وينادي بالحق.

مات الرجل الذي أذاب نفسه من أجل غيره، فما سُمع عنه أنه توخَّى الشهرة، أو استهدف المكانة، أو سيرَّته الأنانية.

مات الرجل العامل الصامت الذي يتعب فلا يتحدث عن تعبه، والذي يعمل فلا يمنُّ بعمله، لقد كان يعمل لله، ويعلم أنَّ من حق العامل لله أن يكون صابراً صامتاً.

مات الرجل الذي صار بعد أن هبط حلب أحد العناصر الإسلامية في كلِّ وَصْفةٍ تلزم الأمة الإسلامية المريضة في هذه البلدة..”

ورثاه الأستاذ محمد المبارك بقوله: ” لقد عرفنا في أمين عليه الرحمة والرضوان ذلك الأستاذ الكامل في دأبه وجدّه، وفي سموِّ نفسه ومتانة خلقه، وفي عنايته بالنشء وتهذيبهم.

ونشهد أنا ما رأينا أستاذاً يبذل من العناية بشؤون تلاميذه حتى الخاصَّة الصغيرة مثل الذي كان يبذل. ولقد كانوا يشعرون أنه لهم مرب ناصح، يشعرون باهتمامه لأمورهم، فلقد كان لهم مستشاراً ومؤتمناً، إن شهدوا وإن غابوا يكاتبونه من بلدانهم فيجيبهم بما يبل غلة النفوس الشابة، ويحلُّ لهم مشكلاتهم بنيِّر سبل هذه الحياة، لقد كانت مواساته وعنايته بهم عامة شاملة، فكان لا يفرِّق بين تلاميذه مهما اختلفت بلدانهم أو أمزجتهم أو مذاهبهم كما لا يفرق بين أولاده…”

ورثاه الأستاذ خليل هنداوي بقوله:”كان هذا المعلم في جهاده المدرسي مثال الدأب الذي لا يفتر، والنشاط الذي لا يكل، يغادر الطلاب ليلقى الطالبات، ويترك الطالبات ليلتقي رجال العلم، ويودع رجال العلم ليحدث طلاب الدين..أما رسالته في جهاده المدرسي، فهي رسالة المعلِّم الذي يودُّ أن ينشىء من طلاب العلم رجالاً أشداء يتثقفون بالعلم الصحيح، ويقبلون على لغتهم ويتفاخرون بتاريخهم، ويصدُّون عن كل العادات الغريبة، التي لا تلائم الشعائر الدينية، وكان يودُّ أن ينشى من طالباته أمهات حريصات على الفضيلة والعفة، وفي السنة الأخيرة تقبَّل دعوة المدرسة الخسروية للتعليم لغاية واحدة أسرَّها لي هي أن يبُثَّ في أنفس طلابها روح الدين الصحيحة، ويحملهم على طريقة جديدة في تفهُّم روح الشريعة”.

ورثاه الأستاذ عبد الغني الحامد بكلمة باسم جمعية الشبان المسلمين في حماة جاء فيها:” في أخصب سنٍّ أشرقت بأبي مروان، فقدنا أبا مروان، وما إن حظي به شباب محمد صلى الله عليه وسلم حتى فجعوا به، فعن معقد الآمال وساحة الأعمال توارى رحمه الله… لقد كان أمين رحمه الله تعالى أول شاب تطوَّع في حماة لدين الله، نهض يعمل على نشر كلمته، ويجاهد دون مبادئه، واندفع بكل قوته يبثُّ تعاليم الإسلام أنى وجد إلى ذلك سبيلاً، لقد كان من أولئك الذين استوفت عندهم أسباب الدعوة: علم جم، وأدب مبين، وخلق نبيل، فقام بما وهبه الله من سحر البيان، وقوة الخطاب، ينشط لتلك الدعوة، ويعمل في سبيلها، حتى توفي رحمه الله، فخسرت الأمة بوفاته، رجلاً مخلصاً، وداعياً أميناً، وعالماً جليلاً..”].

المصادر:

1ـ مجلة الجامعة الإسلامية، العدد/111/، عدد خاص بحياة الفقيد الشيخ أمين الكيلاني، السنة الرابعة عشرة، 1361.

2ـ الأعلام، المجلد الثاني، صفحة( 21 ) لخير الدين الزر كلي.

3ـ أعلام الأدب والفن، المجلد الأول، صفحة( 195 ) لأدهم الجندي.

4ـ ديوان قوس قزح، للعلامة الفقيه الأديب الشاعر مصطفى الزرقاء، رحمه الله تعالى.

ووردت له ترجمة في كتاب محافظة حماة، صفحة( 217 ) ولم أطلع عليها.

بالإضافة إلى معلومات وفيرة وفوائد كثيرة ، من الأستاذ الشيخ مجد مكي ، حفظه الله، جعلتها بين حاصرتين[ ].

_______________________________________________

كاتب الترجمة: فياض العبسو