الشيخ توفيق الشيرازي الصباغ

ولادته و نشأته:

ولد الشيخ توفيق ابن السيد عباس ابن عبد الله آل الشيرازي الصباغ، في مدينة حماة من سوريا سنة 1291هـ الموافق 1875م، من أسرة كريمة متدينة، تعمل بالتجارة والزراعة.

جمع بين طلب العلم والعمل في الزراعة و التجارة، وقد كان كثير من مشايخ حماة يجمعون بين العلم والعمل، ولهم محلات في أسواق البلد التجارية، كانت في الوقت نفسه مكاتب للفتية والتعليم وفض المنازعات بين الناس.

شيوخه وتلاميذه:

تعلم وتربى على أيدي أساتذة كبار، وشيوخ فضلاء العلم، والتصوف.

أما شيوخه الذين تلقى عنهم علوم الشريعة، فقد تتلمذ على أكثر علماء حماة الأجلاء كالشيخ حسن حميدان، والشيخ إبراهيم الطنجير” الأب” ، والشيخ أحمد الصابوني، والشيخ الأديب الشاعر حسن رزق، والشيخ عبد الله الحلاق (الكبير)، رحمهم الله تعالى.

وكان شيخه الأول هو الشيخ عبد القادر اللبابيدي الذي لزمه خمسة وعشرين عاماً، وكان عالماً صالحاً فقيهاً زاهداً، وكان محباًَ له مساعداً في أطوار حياته كلها، وكان الشيخ يبادل تلميذه حباً بحب ووفاءً بوفاء.

وقد بلغ من إخلاص شيخه وحبه له أن خلع عليه وظائفه الدينية وهو حي يرزق.

 

تلاميذه وإخوانه:

محمد الحامد، خالد الشقفة، محمد علي مراد، إبراهيم طــنــجير، عبد الله الحلاق، عبد الكريم البارودي، محمد بشير المراد، محمد علي الشقفة، عبد القادر علواني، بدر الدين الفتوى، صالح النعمان، منير اللطفي، سعيد العبد الله ، محمد سعيد الأهدب ، أديب الهزاع، وغيرهم رحمهم الله جمعياً، وولداه: عبد الله وعبد اللطيف حفظهما الله ونفع بهما.

 

ملامح من شخصيته:

عالمٌ مستنير ومربٍ كبير:

كان رحمه الله وقوراً جليل الهيبة، أبي النفس، كريم الطبع، جميل السمت.

يربي بالقدوة وبالنظرة، وبالإغضاء، يلقى الناس بالبشر وبالترحاب، يحسن الظن في كل مسلم، ويجامل في أمور الدنيا، ولا يحابي في أمور الدين أحداً.

كان فقيهاً يراعي ظروف السائلين، واختلاف الزمان والمكان وتغير الأعراف.

وقد صقل ملكة الفقه عنده، اشتغاله في صدر حياته في الزراعة والتجارة، ومعرفة أعراف الناس.

كان خبيراً بدخائل النفوس، بصيراً بأسرارها، رقيق القلب فياض العاطفة، يشارك الناس همومهم وآمالهم، ويعتبر خدمة الناس والسعي في قضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم من أقرب القربات إلى الله.

وكان مرجعاً للفتيا في حماة، وريفها الواسع، ويستفتى من بعض المدن السورية.

كان يملك روحاً شابة، ويحسن التعامل مع الشباب، يتسامح معهم ويصغي إلى آرائهم ، ويأخذ بيدهم ويرشدهم إلى الصواب.

 

كان يشق عليه أن يسرع أحدٌ في الحكم في تكفير مسلم وإخراجه من حظيرة الإسلام، لمجرد شبهة أو توهم أو سبق لسان طالما لم يصرح بما يكفر ويخرج من الملة.

 

معلم مخلص:

كان معلماً مخلصاً لا يكف عن العطاء ولا يمل من الدرس، يفسح صدره لطلاب العلم للنقاش وعرض وجهات النظر بلا ضيق.

علّم تلاميذه التحقيق في العلم والاستفادة من المراجع والمظان.

قال عنه تلميذه النجيب العلامة الشيخ محمد الحامد: ” فضيلة أستاذي الجليل، شيخ الشافعية في حماة،ورئيس جمعية العلماء فيها الشيخ محمد توفيق الصباغ أدام الله توفيقه، وجزاه عني وعن زملائي خيراً، كان مديراً لدار العلوم الشرعية، وكان يبذل جهداً كبيراً في تثقيفنا وتعليمنا، ويحنو علينا حنو الوالد الرحيم على صغاره، أسأل الله له طول البقاء في توفيقٍ وصلاح”.

 

كان له درسان كل يوم: درس خاص، ودرس عام.

أما الدرس الخاص فبعيد طلوع الشمس،يتحلق حوله فيها كوكبة من إخوانه الصالحين من المشايخ الفضلاء والأصدقاء وطلاب العلم، درس لهم مجلة الأحكام الشرعية. وكفاية الأخيار للحصني.

وأما درسه العام: فهو بعد صلاة العصر لكافة الناس، يتناول فيه موضوعات تناسب اهتمام العامة في العبادات والمعاملات والأخلاق والتفسير والسير.

 

تصوفه:

كان تصوفه منضبطاً بالكتاب والسنة وطريق السلف الصالح، عايش التجربة الإيمانية، أروع ما تكون المعايشة، ومارس الرياضة الروحية أصدق ما تكون الممارسة، وحظي بصحبة شيوخ صالحين، تركوا آثاراً طيبة في تهذيب نفسه وشفافية روحه.

 

في بيته:

كان بيته ملتقى لرجالات البلد وأولي الشأن منهم، كما كان مقصداً للوفود التي تؤم المدينة، من مختلف أقطار العالم الإسلامي، يتبادلون مشاعر الأخوةوالمحبة، ويتذاكرون هموم المسلمين وأحوالهم.

وكان يكثر من صلوات النوافل، وقراءة القرآن الكريم، مهما كانت الظروف والشواغل.

كان يذوب عطفاً وشفقة على الضعفاء والمساكين، يحدب عليهم ويسعد بخدمتهم ومواساتهم. إذا أرسل بعض أصدقائه بهدية قبلها ووجهها لتوه إلى بعض الأسر التي يقدر شدة حاجتهم إلى مثلها.

وكان حفيظاً على أسرار الناس والبيوت، لا يفشي سر أحدٍ منهم ولا يذكره باسمه أو صفته… صوناً للأمانة وحفاظاً على السر.

 

حياة حافلة بالعطاء:

شهد رحمه الله تعالى المؤامرة الكبرى على الدولة العثمانية، وتمزيق دولة الخلافة، وغدر الحلفاء بالعرب متمثلا بمعاهدة سايكس بيكو،وتوطين اليهود في فلسطين.

كان يعتصره الألم ويساوره القلق على مصير الأمة، وما يعانيه المسلمون من قهر وضعف وهوان.

 

الجمعية المحمدية:

كان رئيساً للجمعية المحمدية، في تلك الحقبة الحافلة بالأحداث، وكان من جملة أهداف الجمعية: تصحيح مسار الدولة العثمانية في تطبيق الأحكام الشريعة الإسلامية.

صدر الأمر باعتقاله مع اثنين من علماء حماة، وهما: الشيخ خالد الزعيم، والشيخ: مصطفى الحداد، عام 1328هـ الموافق 1910م ، بسبب مواقفهم المعلنة ضد توجهات حكومة الإتحاد والترقي وإجراءاتها المعادية للشريعة، واقتيد إلى السجن في اسطنبول، وعادوا بعد بالحكم بالعفو والبراءة إلى حماة سالمين موفورين، واستقبلوا في فرحة غامرة واحتفاء كبير.

 

دار العلوم الشرعية:

ظل ما يناهز أربعين عاماً مديراً لدار العلوم الشرعية وأستاذا فيها، وتخرج على يديه مئات من شبابها في المدينة وريفها، من أئمة وخطباء ودعاة ومدرسين، نفع الله بهم خلقاً كثيراً.

 

جمعية الهداية الإسلامية:

ساهم في تأسيس جمعية الهداية الإسلامية، وكان رئيساً لها، وكان للجمعية نشاطٌ في تعبئة الرأي ضد الاحتلال الفرنسي، وضد حملات المبشرين. وقد تعرض للاستدعاء والاستجواب من قبل المستشار الفرنسي أكثر من مرة.

 

جمعية العلماء:

كان عضواً في جمعية العلماء، ورئيساً لها أكثر من ثلاثين عاماً حتى توفاه الله، وهي تمثل علماء البلد أصدق تمثيل.

 

وكان من أنشطة الجمعية:

ـ دروس للنساء في مساجد المدينة.

ـ مدرسة لتحفيظ القرآن خرجت المئات من الحفظة، وكان الشيخ سعيد العبد الله رحمه الله يشرف عليها ويرعاها.

ـ رعاية الأئمة والموظفين الدينيين.

ـ جولات دورية في ريف حماة والإجابة على أسئلة الناس، وإصلاح ذات البين.

ـ زيارة السجون وتفقد المساجين.

ـ زيارة المرضى في المستشفيات ومواساتهم.

ـ توحيد الموقف الديني تجاه ما يطرأ من أحداث.

في مجلس الأوقاف:

كان عضواً في مجلس الأوقاف الذي يضم نخبة من رجالات البلد، وكان يرأس هذا المجلس عند غياب المفتى الذي هو الرئيس الطبيعي للمجلس.

وقد أسهم في تنمية موارد الأوقاف خلال عضويته، كما وفقه المولى لزيادة مرتبات الأئمة والموظفين في الأوقاف.

الشاعر الأديب:

كان يتذوق الشعر ويطرب له، ويقوله على السجية… ويحب الأدب، ويهتز للكلام الجميل، والبيان العذب الأصيل.

 

وفاته:

أسلم الشيخ توفيق روحه إلى بارئها فجر يوم الجمعة 29ذو القعدة 1391هـ الموافق 14 كانون الثاني 1972م وقد ناهز من العمر مئة عام، قضاها في العلم والتعليم.

وودعت حماة شيخها في موكب حافل، وشارك في رثائه عقب الصلاة عليه في المسجد الكبير نخبة من العلماء والأدباء في حماة.

وقد رثاه الأستاذ الأديب: أمين حمد بكلمات باكية مؤثرة. كما رثاه الأستاذ الأديب الداعية الخطيب الشيخ: محمود الحامد بكلمة بليغة مفعمة بالحب والوفاء.

رحم الله الشيخ الجليل رحمة واسعة وأكرم مثواه، وجعل الجنة مأواه وحشرنا معه في زمرة خاتم النبيين وإمام المتقين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

__________________________________________-

كاتب الترجمة : الشيخ مجد مكي