الشيخ محمود عبد الرحمن الشقفة
مولده و نشأته:
هو الشيخ العلامة، والعارف الرباني، المرشد المربي، العابد التقي الصالح، ذو الطلعة البهية، والوجه المتلألئ بالأنوار محمود بن عبدالرحمن حسين الشقفة رحمه الله تعالى.
ولد رحمه الله تعالى عام (1315 هـ الموافق 1898 م) في حماة الشام، وتوفي ليلة الأحد (12/ رمضان المبارك/ 1399هـ الموافق 5/8/1979م).
يعتبر الشيخ رحمه الله تعالى واحد من علماء حماة المبرزين، ومن شيوح سوريا المشهورين، أثرى الحياة العلمية في بلدته إثراءً عظيماً، بإنشائه المدارس الشرعية، وإلقائه الخطب المنبرية، وقيامه بتدريس العلوم الشرعية واللغوية على مدى ستين عاما، بل إن نشاطه امتد ليشمل المحافظات السورية كلها، ودولا عربية شقيقة، فتلمذ له عدد من أبنائها، وجعل حياته-رحمه الله- كلها خدمة للإسلام والمسلمين، عالما عاملا، وشيخا مربيا، قلَّ نظيره، وعز مثيله، حتى انعقد الاجماع بين العلماء على رفعة شأنه، وعلو منزلته، ورسوخ قدمه، فلا تكاد تسأل شيخاً عنه إلا مدحه وأثنى عليه، ولا شك أن عالماً هذا شأنه، يجدر بنا أن نعرف على نشأته، ونهتدي لطريقته، لأنه أسوة تؤتسى، وقدوة تقتدى.
أشهر شيوخه:
محدث الديار الشامية الشيخ محمد بدر الدين الحسني (1267– 1354هـ)، ومفتي حماةالعلامة الشيخ المعمر محمد سعيد النعسان (1867-1967م)، والفقيه الشافعي الشيخ مصطفى حنحون الحداد، واللغوي الأديب الشيخ أحمد درويش، والشيخ محمد رجب الطائي، والشيخ عبد الرحمن السبسبي الرفاعي، رحمهم الله تعالى، وكان له صلة مع الشيخ محمد بن السيد جعفر الكتاني ومع ابنه البار العارف بالله العلامة السيد الشيخ محمد مكي مفتي المالكية في بلاد الشام، وله العلاقة الوطيدة والسيرة الحميدة المجيدة والصلة القديمة الكريمة بالسيد محمد تاج الدين الصيادي نقيب أشراف حلب، حفيد السيد الشيخ محمد أبي الهدى الصيادي الرفاعي.
إجازاته العلمية:
1- كان الشيخ محمود على صلة وثيقة وعلاقة وطيدة مع المحدث الشيخ محمد بدر الدين الحسني، وقد أخبرني الشييخ محمد علي المراد رحمه الله رئيس جمعية علماء حماة سابقا: بأن الشيخ بدر الدين كان يحب الشيخ محمود محبة عظيمة، ولما قام الشيخ بدر الدين بجولة في المدن السورية يدعو فيها للجهاد ضد الفرنسيين، نزل ضيفاً في بيت الشيخ محمود في حماة، وقد أجاز الشيخ بدر الدين الشيخ محمود إجازة عامة بالمعقول والمنقول من فروع وأصول، وفي الحديث النبوي، وجاء في مقدمة هذه الإجازة المباركة: (أما بعد فإن الإسناد من الدين، والأخذ به متمسك بالحبل المتين، ومن ثَمَّ عكف أهل العلم عليه، وتوجهت مطاياهم إليه، ولما كان منهم: مولانا الشيخ محمود بن مولانا الشيخ عبد الرحمن الشقفة الحموي، وفقه الله لإرشاد العباد، وسهل لنا وله طرق السداد آمين، ….فأجزته بالمعقول والمنقول من فروع وأصول، والأحاديث الشريفة والآثار المنيفة).
2- إجازة من الشيخ محمد رجب الطائي، وهو من ذرية الشيخ ابن عربي رحمه الله.
3- إحازة من عمه الشيخ محمد الشقفة في الطريقة الرشيدية، وكان على صلة بشيخها إبرهيم العكعك في حماة، ووفد عليه من مصر شيخ الطريقة في عصره الشيخ أبو العباس الدندراوي بصحبة علمين من علماء الطريقة في دمشق وهما الشيخ أمين الحصني والشيخ عبد الوهاب الصلاحي.
4- إجازة من الشيخ أحمد بن محمد الداري القادري رحمه الله في الطريقة الجيلانية.
5- إجازة من الشيخ عبد الرحمن بن أحمد السبسبي الرفاعي الحسيني المؤرخة في 1384 هـ الموافق 1964م في الطريقة الرفاعية، ومما جاء في هذه الإجازة: (وبعد، فإن الأخ في الله، والمحب لأجل الله،التقي الصالح، والفالح الناجح، والصالح الأسمى، والبركة العطمى، أخانا وحبيبنا العالم الفاضل، واللوذعي الكامل، الأستاذ السيد الشيخ محمود ابن السيد عبد الرحمن آل الشقفة –مدير المدرستين الشرعيتين الأولى: المدرسةالمحمدية، والثانية: التكية الهدائية- طلب من هذا العاجز أن أجيزه في الطريقة الرفاعية، فاستخرت الله، فرأيت السيد محمد مهدي بهاء الدين –الشهير بالرواس- الصيادي الرفاعي الحسيني يقول لي: “يا عبد الرحمن أجز الأستاذ الشيخ محمود، ألم تعلم بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم راضٍ عنه”، فأجبته بذلك، وإن كنت من بعض تلامذته، ولست أهلا لتلك المسالك).
أهم نشاطاته العلمية وأعماله الجليلة:
شارك في النهضية العلمية والإصلاحية التي قام بها شيخه الجليل سماحة مفتي حماة العالم المعمر سعيد النعسان، وذلك بإشارة من العالم المصلح الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله تعالى، عندما أقام في حماة في مسجد النوري لمدة أربع سنوات تقريباً ما بين عامي (1911) و (1915م)، فتأسست نهضة علمية رائعة قامت على إنشاء المدارس والمساجد والجمعيات الخيرية، فكان الشيخ محمود التليمذ النجيب أولا، ثم الأستاذ والمدير في حياة شيخه لبعض تلك المدارس والجمعيات، وهذه بعض من أعماله:
1- عمل في مجال والخطابة والإمامة، التدريس في مساجد حماة، ومعاهدها ومدارسها الشرعية ما يقارب ستين سنة، متنقلا ما بين (الجامع الشرقي)، و(مسجد الأربعين)، و(مسجد الروضة الهدائية –المعروف بالتكية).
2- اتجه الشيخ رحمه الله إلى نشر العلم الشرعي عن طريق فتح المدارس والمعاهد الشرعية والتدريس فيها وتولي إدارتها، تحت إشراف المفتي الشيخ سعيد النعسان منها:
أ- مدرسة عنوان النجاح: عمل بها مدرساً فيها، ثم سلمه رئيسها الشيخ سعيد النعسان إدارتها، فصار الشيخ محمود مديراً لها وذلك عام (1928م).
ب- المدرسة المحمدية الشرعية: قام الشيخ يإنشائها بالتعاون مع لجنة إحياء العلوم والآداب المحمدية، وذلك عام (1939م)، وكانت على سطح الجامع الشرقي، وجعلها الشيخ ثلاثة أقسام: قسم ابتدائي وأطلق عليه ابتدائية حسان بن ثابت، وقسم إعدادي متوسط أطلق عليه: إعدادية الغزالي، وقسم شرعي تدرس العلوم الشرعية في التكية الهدائية وأطلق عليه الروضة الروضة الهدائية.
ت- معهد الروضة الهدائية الشرعي مع مسجد التكية: بدأ ببنائه السيد الشيخ أبو الهدى الصيادي عام (1325م) تنفيذاً لوصية شيخه السيد محمد مهدي بهاء الدين الصيادي الشهر بالرواس، غير أن أبا الهدى الصيادي توفي بعد سنتين من الشروع في بنائه، فظل البناء ناقصاً حتى أكمله بتوفيق من الله الشيخ محمود عام (1363)، وقد تمَّ الاعتراف به من قبل الأزهر الشريف، وعادلوه بشهادة المعاهد الأزهرية الثانوية، وقد تخرج فيه المئات الذين باشروا العمل في مساجد سورية ومدارسها وعاظاً ومدرسين، وقد امتلأت المدرستان المحمدية الشرعية والروضة الهدائية بالطلاب الوافدين إليها من المحافظات السورية، من لبنان وفلسطين والأردن وتونس والجزائر، وتركيا ويوغسلافيا، و لا يزال المعهد قائما إلى هذا الوقت).
3- إنشاء الجمعيات الخيرية: أشهرها (لجنة إحياء العلوم والآداب المحمدية، جمعية رعاية المساجد والشعائر الإسلامية والتي لا تزال قائمة إلى هذا الوقت).
انتخابه نائباً عن مدينة حماة للمجلس النيابي:
امتد نشاط الشيخ إلى الحياة السياسية فرشح نفسه للمجلس النيابي عام (1947م) نائبا عن حماة، ففاز فوزاً ساحقا نتيجة مكانته العلمية وثقة الناس به، وقد سجل مع رفاقه موقفاً حين وقفوا صفا واحداً أمام قانون (التركات) إذ ألقى الشيخ كلمة مؤثرة في المجلس ندد فيها بهذا القانون ودعا إلى إلغائه، وأردف ذلك من الخطب المنبرية في مدينة حماة مستنكراً فيها هذا القانون، داعياً الشعب إلى الوقوف ضده، غير أن المجلس تجمد وبات عاجزاً عن أي إصلاح كان الشعب يتوقعه إلى أن انحل البرمان عام (1949م) إثر الانقلاب الذي قام به حسني الزعيم، وقد أبان الشاعر عمر يغمور في رثائه للشيخ عن ترشيح نفسه للدخول في المجلس النيابي فقال:
أقلعت عن أمر النيابة إنها لا تتقتضي بالشِّرعة السمحاء
رُمت الصلاح لها ولكن لم تجد من تسعين به من الصلحاء
فكففت عنها عفة وترفعاً عن بهرج الدنيا وعن خيلاء
لقيت نهايتها وسوء مصيرها إذ لم تُجبك لدعوةٍ ونداء
ولا يُنسَ للشيخ ذلك الموقف الجهادي حين شارك الشيخ محمد بدرالدين الحسني، والشيخ علي الدقر في التحريض ضد الفرنسيين.
بعض من مناقبه المباركة وأخلاقه المحمدية:
1- نشأته على التقى والقرآن: نشأ على على التقى، وتربى على الفضائل والإحسان، فمنذ طفولته حفظ كتاب الله، ثم تابع تحصيل العلم، ووهب حياته كلها لله، وأمضى شبابه في طاعة الله، لم يشتغل في حياته كلها إلا فيالعلم والتعليم، ولم يلتفت لشيء من الدنيا وحطامها، وهو القائل: إن التقى علمتني النسك من صغر فما التفت إلى شيء سوى الله
يقول تلميذه الشيخ محمد أديب كلكل: (كان رحمه الله تعالى منذ طفولته مضرب المثل في التقوى والصلاح، وفي شبابه مثال الاستقامة والبر ولإحسان، وقد ربى نفسه وجاهدها حق الجهاد، حتى صفت وارتقت، فكان روحاني المظهر والمخبر، وكانت أنوار الصلاح تتلألأ في وجهه المشرق).
2- تلألؤ وجهه بنور الإيمان: كانت التقوى تشع في وحهه كالبدر، ونور الإيمان يتلألأ في محياه، من رآه هلل وكبر وتأدب حياء من مظهره المحمدي الأنور، تعلوه الهيبة والوقار، وكأنه معني بقول الشاعر:
عز الوقار ونور سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا السلطان
3- عمارته لبيوت الله، وإحياؤها بمجالس العلم والذكر: عمَّر بيوت الله عمارة معنوية وعمارة حسية، فبعد أن تأهل للخطابة والتدريس، أحياها بحلق العلم العامرة، التي كان يزدحم عليها الناس، بالإضافة لمجالس الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار إلى هذه الدروس الطيبة شيخنا الفاضل محمد أديب كلكل حفظه الله تعالى فقال: (كنت أحضر هذه الدروس، وما تخلفت عنها يوما واحدا منذ علمت بها، واستفدت منها الكثير الطيب، لأنها كانت مؤثرة في النفس والسلوك…، وكانت له دروس صباحية في كل صبيحة من يوم من أيام رمضان في الجامع الشرقي حيث تحتشد الجموع الكثيرة، فتخرج متأثرة بتلك الدروس الرمضانية تائبة منيبة، فكم من تائب منيب صدق في توبته، وكم من خاشع أواه أشرقت روحه، وحلقت في أجواء الصفاء، نتيجة لتلك المواعظ والتوجيهات….وحضرت دروساً له بعد العشاء في الجامع الشرقي حيث قرأت عليه “رياض الصالحين” مرتين”، وكان يشرح كل باب من أبوابه شرحا فياضا، وقد كتبت من كلامه أربعين مجلسا، ولكن عدت عليها عوادي الزمن، فتأسفت عليها أسفاً شديداً، وكانت دروسه العامة في جميع المجالات في الفقه والحديث الشريف، والوعظ والإرشاد، والتربية والتسليك).
عقد الشيخ دروساً خاصة لطلابه النابهين الملازمين له، ودرسهم فيها كتباً معتبرة في علوم متعددة: ففي الفقه الشافعي درس كتاب “فتح العلام” للجرداني في الجامع الأربعين، ثم أعاد تدريسه في “الجامع الشرقي”، كما درس كتاب “كفاية الأخيار” وعلق عليه تعليقات دقيقة، وكانت له اليد الطولى في الحديث الشريف وعلومه، إذ لخص للطلاب كتاب” نخبة الفكر” لابن حجر العسقلاني، وجعله على صورة سؤال وجواب تسهيلا لحفطه ودراسته، كما درس في النحو والصرف والبلاغة فكان رحمه فيها من المتمكنين فيها، فدرس متن الغزي في الصرف، و”حاشية الكفراوي على الأجرومية”، و”شرح قطر الندى”و “شرح شذور الذهب” وكلاهما لابن هشام في النحو”، وقد أعاد تدريس هذه الكتب عدة مرات، كما درَّس “جواهر الأدب” للهاشمي، وجعل “بردة البوصيري” ميدانا للتمرين والإعراب بعد شرحها شرحا أدبيا رائعا، وكان يسأل الطلاب عن إعراب الإعراب، حتى تحدث عندهم ملكة قوية في هذا المجال، كأن يقول للطالب أَعرِب قال”، فيقول: فعل ماض، فيقول له الشيخ: اعرب قولك فعل ماضي..وهكذا، كما درس في الأصول فكان ذا له معرفة واسعة بهذا العلم فدرس طلابه حاشية الدمياطي على شرح “الورقات للجويني”، وقد صاغها بطريقة السؤال والجواب حتى تكتمل الفائدة منها، كما درس في التفسير “حاشية الجمل على الجلالين”، وقرأ على طلابه في السلوك “شرح الحكم العطائية لابن عباد”.
5- خطيب بليغ مؤثر في النفوس: أما في مجال الخطابة فكان فارس هذا الميدان، وآخذاً بزمامه، خطيباً مصقعاً مفوهاً، يحي القلوب ويهزها، ويثير المشاعر، ويؤجج العواطف، ويروي العقول.
6-أحد الرجال الكمل الأحرار: شهد بذلك الكبار من العلماء، ومن نحسبهم من الأتقياء الأبرار، وعندما مرَّ الشيخ العارف سليمان الواعظ العراقي –المجاور ودفين البيع- بحماة، ثم سافر إلى دمشق ونزل ضيفاُ عند الشيخ عبد الحكيم عبد الباسط، قال للشيخ مصطفى التركماني -عندما أخذ بيده لأنه كفيف-: من أنت؟ قال له: من إخوان الشيخ محمود الشقفة، فقال له: احفظ عني ما أقول:
تمسك إن ظفرت بذيل حر فإن الحر في الدنيا قليل
7- علو همته وكثرة ذكره لربه: عالي الهمة مقبل على ربه، كثير الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مديم لقيام الليل، عابد متهجد، قليل الطعام كثير الصيام، وقد سمعته يقول: (كنت أصوم السنة كلها ولا أفطر إلا أيام العيد)، أما في حضرة الذكر فكالأسد الهصور في عرينه، متفان مستغرق متوثب، منهمك في الذكر دون كلل أو تعب، ومع انه جاوز الثمانين من عمره، فإذا شعر بفتور وضعف في الشباب الذاكرين، أثار فيهم حرارة الذكر، وأشعل في قلوبهم جذوة المحبة والإيمان.
8- رقيق القلب غزير الدموع: فلغزارة دموعه في حب الله ورسوله كانت تنفر من عينه المباركة، فكان عند ذكر الحبيب المصطفى وشمائله الشريفة يبكي بكاء الثكلى، حتى كنا نرحمه من شدة البكاء، ونضع له الأوراق لتشيف دموعه المباركة، فوالله إنا لنأخذها وقد تبللت بالدموع وتقاطرت، وهو القائل:
بمدح المصطفى زكت القلوب وهاج الشوق واشتد اللهيب
وعم الوجد أحشاء النشاوى بحب محمد وعلا النحيب
وفي مدى حبه للنبي صلى الله عليه وسلم وشوقه إليه يقول:
ألا يا حبيب الله يا خير شافع ومن هو حقاً للأنام رسول
شفاء سقامي من علاك بنظرةٍ فهل منك إنعام بها وقبول
على بابك العالي وقفت مؤملاً وما خاب في باب النبي نزيل
فكم أرجو وآمل منك خيراً وأسعى إنما زادي قليل
فلا تنظر لزادي إن رحلي أبى إلاّ بربعكم يقيل
طرقت الباب والآمال عندي تسامت أن يكون لها مثيل
وحقق ما رجوت وشدّ حبلي بحبلك رحمةً إني دخيل
فلا تردد رحيم القلب واجبر عبيداً ظنه فيكم جميل
سألتك والجليل يقول وحياً فلا تنهر فأنت أبٌ كفيل
عليك صلاة ربك ما ترامى على أعتابك العليا النزيل
8- تفانيه في حب الله ورسوله وتمسكه بالشرع الإلهي: ولعل السمة البارزة في أحوال هذا الشيخ المبارك تفانيه في
محبة الله ورسوله، وتقيده بالنهج المحمدي، والتزامه بأحكام الشرع الإلهي، وهو القائل:
نهجنا نهج الرسول المصطفى ولنعم النهج مفتاح الصفا
فاتبَعَن خطتنا تنجح بها إنما يدري علاها من صفا
لاتحد عن رسمها وارض لها إن في أوضاعها كنز الوفا
مصنفاته:
اشتغل الشيخ بالتعليم والتربية، لذا لم يؤلف إلا القليل، وقد عرفنا من مؤلفاته:
1- كتاب العروة الوثقى: وهو رسالة صغيرة تحدث فيها عن الصلاة.
2- ديوان المدائح النبوية، ضمنه عدداً من القصائد تتناول عدداً من الموضوعات، وقد جمعه الشيخ عبد الحليم عبد الباسط وطبعه بعنوان (المدائح النبوية والتوسلات الأحمدية).
3- ديوان خلية اليعسوب.
4- تفسيرسورة الفاتحة
5- رسائل تربوية نثرية كتبها لتلميذه بسام هبرة، وهي في غاية الجمال اللغوي، والتوجيه التربوي، وقد جمعها الشيخ عبد الحليم عبد الباسط وطبعها تحت عنوان: (منهج تربية المريد ليكون من خيرة العبيد).
أشهر تلامذته:
الشيخ محمد أديب كلكل، والشيخ سعد الدين المراد، الشيخ خالد الشقفة، والشيخ محمد علي الشقفة، والشيخ محمد أديب كيلاني، والشيخ مظهر قيمة، والشيخ عبد الحكيم عبد الباسط، والشيخ حسين موسى الحلفاوي، والشيخ منير لطفي، والشيخ محمد أديب هزاع الدبساوي، والشيخ مخمد نبهان الخباز، والشيخ مصطفى الفران، وأخوه الشيخ عبد الغني الفران، والشيخ فاروق عبد الرزاق الشقفة، والشاعر عمر يغمور، وغيرهم الكثير.
كيفية استشهاده واستجابة دعائه:
أخبرني من أثق به أنه سمع الشيخ خالد مُنُّو –أحد تلامذه الشيخ محمود وقد لازمه أكثر من خمسين سنة- يقول: (كنت كثيراً ما أسمع الشيخ محمود يدعو قائلا: “اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك”، ففي إحدى المرات قلت للشيخ: يا سيدي ومن أين تكون لك الشهادة؟ طالما أن حياتك تقضيها ما بين البيت والمسجد والمدرسة، وأنى لك الخروج للجبهة لقتال اليهود؟ فأجابني الشيخ قائلا: “وهل أنت أكرم من الله، إنما أسأل الكريم الجواد”).
وفي يوم الجمعة العاشر من رمضان المبارك من عام 1399هـ الموافق 3/8/1979م) كان الشيخ يقيم محلساً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر كل يوم جمعة، فحضر الشيخ المسجد وكان صائماً، وبعد الفراغ من قراءة أجزاء من “دلائل الخيرات” والأذكار، وسماع المديح في حب الله ورسوله، وقبل انتهاء المجلس مرَّت ساعة مباركة عمَّت فيها النفحات والرحمات والتجليات، فوالله إني لأنظر إلى الشيخ وهو واقف على قدميه وقد أخذته حالة من الاستغراق والسكينة، خافضاً رأسه، رافعاً يديه، مناجياً داعياً، مبتهلاً متذللاً، وبعد انتهاء المجلس ولم يبق لأذانن المغرب سوى نصف ساعة، تقدم الناس للسلام على الشيخ، وكنت قد جهزت نعل الشيخ ليلبسه، ولم يكن بيني وبينه سوى بضعة أمتار، وأنا أرقب الشيخ ولم يبق إلا شخص واحد كان آخر من اصطف للسلام عليه، تظاهر أنه يريد تقبيل يده، فتحرك أمام الشيخ بحركة غريبة انفتل الشيخ غلى أثرها، ثم عاد الشيخ كما كان، فظننا بأنه ضرب الشيخ أو أساء له، والشيخ لم يتكلم بكلمة، ولم يرفع صوته بشيء، فقمنا بضرب هذا الشخص في المسجد، وكنت آخر من ضربه، ثم فرَّ هارباً، ونحن لا نعلم ما الذي فعله بالشيخ؟ ولكن المفاجأة التي أذهلت الجميع، وأفقدتهم رشدهم، وجعلتهم في دهشة وحيرة ما كانت بالحسبان، ولكنها في ميزان الله ابتلاء واصطفاء، ورفعة ومقاما، رأينا شيئا بارزاً تحت عباءة الشيخ، فرفع أحدهم العباءة، وإذا بسكين غارزة داخلة في جسمه، مابين قلبه وسرته، وقد كان الخبيث أخفاها في كُمِّ يده، وبحركة سريعة ماكرة سحب طرف عباءة الشيخ وطعنه بها، ثم أعاد العباءة كما كانت، بحيث أنَّ من كان ملاصقاً له لم ينتبه لفعلته الغادرة، وبعد ذلك سحب أحدهم السكين من جسم الشيخ، ويا لهول المنظر، الدماء الشريفة الزاكية تسيل وتتساقط على ثوبه الأبيض، وعباءته الشقراء، والأصوات ترتفع بالشهيق والبكاء، والشيخ في وقاره وهدوئه، وسكينته ورباطة جأشه، لا يتكلم بكلمة، كله استسلام ورضا بقضاء الله وقدره، وما عرفنا أن ذلك استجابة دعاء، وتحقيق رجاء، زيادة في مقامه، ورفعة في قدره، أعاد الشيخ العباءة كما كانت ووضع يده عليها متوسطاً بها بطنه الشريفة، وبدأ يمشي على قدميه، ولا يسمح لأحد بحمله، حتى خرج من المسجد وركب في سيارته، ثم أخذوه إلى أحد المستشفيات، ولم يبق لغروب الشمس إلا دقائق، وفي تلك الليلة أجريت للشيخ عملية جراحية عاجلة، وعاش بعدها يوماً واحداً، وقبل وفاته دخل عليه الشيخ حسين موسى رحمه الله شيخ حلفايا، فطلب منه الشيخ محمود أن ينشد له قصيدة مطلعها “علام تخاف صادمة الليالي”، وهي للسيد الرواس، وأقتتطف منها هذه الأبيات:
علام تخاف صادمة الليالي وحول الله يغلب كل حال
فدع وهم الوجود وكن أمينا بلطف الحق ربك ذي الجلال
وخذ جاه النبي الطهر درعاً لكشف الخطب النوب الثقال
فجاه المصطفى جاه عريض رفيع في رحاب القدس عالي
إمام الأنبياء ومقتداهم وصدر المرسلين ذوي المعالي
فدونك يابني حماه وانزل برحبً منه مبسوط الظلال
وخلِّلك آمناً من كل شيء بإذن الله وهاب النوال
وبعد ذلك بساعات بدأت سكرات الموت تنتاب الشيخ، وكان يسأل كلما دخل وقت الصلاة ودون أن يفتح عينيه: هل صليت؟، فيجيبه الشيخ أديب كيلاني الذي كان بجانبه: نعم صليت، وعندما اشتدت حالة الشيخ بدأ من كان حوله بذكر الله تعالى، ثم تلا الشيخ أديب سورة (يس)، وفي أثنائها فاضت روحه إلى الله تعالى، وفي عصر يوم الأحد 12 رمضان من سنة 1399 الموافق 5 آب سنة 1979م، شيع جثمانه الطاهر وقد حضر جنازته الآلاف من كافة المدن السورية وخارجها، وبعد الصلاة عليه في مسجد التكية، ألقى بعض العلماء كلمات في مآثر الشيخ، ثم دفن في الحديقة المجاورة للمسجد، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرالجزاء.
_________________________________________________
كاتب الترجمة: خلدون عبدالعزيز مخلوطة
انظر للتوسع في ترجمة الشيخ:
1- كتاب “أحوال الأبرار عند الاحتضار” الباب الثامن والعشرون: وفاة العلامة الشهيد الشيخ محمود بن عبد الرحمن الشقفة لمؤلفه خلدون مخلوطة.
2- ديوان “المدائح النبوية والتوسلات الأحمدية” مع كتاب “منهج تربية المريد ليكون من خيرة العبيد” للشيخ محمود الشقفة جمع الشيخ عبد الحكيم عبد الباسط رحمه الله.
3- كتاب “العالم الشهيد الشيخ محمود بن عبد الرحمن الشقفة: حياته وآثاره” للدكتور محمد رياض الخوام.