الشيخ مصطفى الحداد
ولادته و نشأته:
ولد المرحوم سنة 1288هـ =1871م، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ثم استظهره، ثم درس الفقه الشافعي على علماء حيِّ الحاضر في حماة وخصوصاً الشيخ فارس الشقفة، والشيخ يحيى الفرجي، ودرس الفقه الحنفي على الشيخ أحمد الدباغ أمين الفتوى، ولازم عنده، وقد سيق لحكم الإعدام مع المرحومين الشيخ توفيق الصباغ، والشيخ خالد الزعيم إلى استانبول متهمين بمناهضة الحكم والمطالبة بالحكم الشرعي ثم أفرج عنهم، ثم انتدب مستشاراً في محكمة التمييز بدمشق مدة قليلة حيث طلب العود لحماة، فعاد لها قاضياً شرعياً حتى أحيل إلى التقاعد.
كان قوي الحافظة، عالماً فاضلاً ورعاً، مسدد الأحكام مهيباً، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان مرجعاً في الفقهين الشافعي والحنفي.
توفي مشلولاً في 27 رجب 1357هـ =1938م، وكان مكتوباً على قبره:
بكت المحابر والمنابر سيداً قد كان صدراً للمحاكم أوحدا
من صفاته الخلقية: كان مربوع القامة، ضعيف الجسم، حنطي اللون ولكن وجهه يشع نوراً، كانت مشيته بهدوء، وكان يعتني بلباسه، وكان ذا صوت ندي وجميل، كان يؤذن أحياناً في جامع الدرابزون، وكانت له تسبيحات يقولها قبل الفجر مختلفة عن التسبيحات التي يقولها المؤذنون عادة. زوجته من آل الدريعي.
هذا وقد سمعت من كبار السن الذين كانوا يحضرون دروسه أشياء، وسمعت منهم مناقب جمّة عنه ـ رحمه الله تعالى ـ أذكرها لتبقى في ذاكرة التاريخ، وربما لم يسمع بها أحد من جيل هذا العصر، وحتى يعلموا ما لهذه المدينة من مكانة علمية غابرة، وكم نبغ فيها من رجال حملوا راية العلم والإصلاح على مرِّ الزمان.
دفن في مقبرة الحاضر، وقد دُرس قبره كما درست قبور علماء آخرين.
أولاً: ذكر لي أن الشيخ فارس الشقفة ـ رحمه الله تعالى ـ كان يدرّس في جامع الأربعين في منطقة الحاضر بحماة، وكان الشيخ مصطفى الحداد طفلاً صغيراً حيث دخل المسجد متأخراً عن صلاة الجماعة فصلى، ثم جلس في مكانه بعيداً عن حلقة الشيخ فارس، وتتابع جلوس الطفل كل يوم في مكانه حيث لفت نظر الشيخ فارس ذلك الجلوس، فدعاه الشيخ إلى الانضمام إلى الحلقة، وبعد انتهاء الدرس سأله الشيخ فارس: ما اسمك يا بني ؟ فأجاب: مصطفى، فسأله: هل حفظت الدرس يا بني ؟ قال الطفل: نعم، وأعاد الطفل الدرس كاملاً كما سمعه، قال له الشيخ: والدرس الذي قبله؟ قال الطفل: والذي قبله، فأعاد الكل من حفظه، فتعجب الشيخ من ذلك، وكان أحدُ أولاد الشيخ حاضراً في الحلقة فناداه الشيخ: >حسين أو حسن، إن هذا الطفل قد حفظ في أيام معدودات ما حفظته أنت في سنتين<، ثم أخذ الشيخ فارس بيد الطفل، وذهب به إلى أبيه حيث كان يعمل حداداً فقال له: كيف تضيّعون هذه الجوهرة بين ركام الحديد والدخان، دعوه يطلب العلم، فإنه سيكون له شأن عظيم، ولربما يسبقني في هذا الميدان.
وتابع الشيخ مصطفى تحصيله العلمي على مشاهير علماء عصره حتى نبغ في العلم، وشهد له بذلك كبار أساتذته.
ثانياً: كانت له دروس في الفقه والتفسير في جامع الدرابزون في حي العصيدة، وكانت دروساً علمية جامعة، وكان بعض الحاضرين يخطر في باله سؤال يريد أن يسأل الشيخ أثناء الدرس عنه فيشير السائل ليسمح له الشيخ بالكلام، فيقول الشيخ: انتظر سيأتيك الجواب، من غير أن يذكر السؤال، ثم يريد آخر أن يسأل عن شيء آخر فيقول له الشيخ: سيأتيك الجواب، وحينما ينتهي الدرس يقول الشيخ: هل من سائل؟ فلا يوجد من له سؤال، ويكون قد وردت أجوبة السائلين من غير أن تعرض الأسئلة عليه، فقيل له مرة: وكيف تعرف ماذا يريد كل سائل؟ فيقول: إني أتعرّض لكل مسائل الموضوع القريبة والبعيدة، وأقوال الأئمة فيها فلا بد أن ما خطر ببال السائل أن يكون له احتمال من كل الاحتمالات الواردة في هذه المسألة.
ثالثاً: وذكروا لي مرة أنه بقي ساعة ونصف وهو يشرح الآية الكريمة:[وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ] {القمر:50}.
وذكروا لي مرة أنه خطب الجمعة في الجامع المذكور، وحينما أقيمت الصلاة قدّم غيره ليصلي بالناس إماماً لعذر طارئ، وبعد الانتهاء من صلاة الجمعة قام رجل من ناحية المسجد ونادى بأعلى صوته: لقد أفسدت علي جمعتي يا شيخ! فأجابه الشيخ فوراً: ليس عندنا في حماة مالكية، ولو كان ذلك لراعينا الخلاف ـ لأنه عند المالكية يشترط في خطيب الجمعة أن يكون هو الإمام فيها ـ وإذا بالرجل مالكي المذهب مسافر، وقد أدركته صلاة الجمعة في حماة، وصلى في هذا المسجد.
رابعاً: وذكروا لي أنه كان مرة جالساً مع الشيخين الجليلين الشيخ فارس الشقفة والشيخ محمد طربين في غرفة جامع البحصة يتذاكرون في قضية علمية، وإذا برجل غريب تبدو عليه مظاهر الفقر يقف بالباب، وقد استمع لبعض مناقشاتهم فإذا به يقول لهم: إن مسألتكم التي تبحثونها موجودة في ذلك الكتاب الموجود عندكم في صفحة كذا، ففتحوا الكتاب وإذا بالمسألة نفسها التي يبحثونها، وقد تبين أن ذلك الشخص هو مفتي الكوفة في العراق قد نذر أن يحج ماشياً على الأقدام، وأن يرجع إلى بلده عن طريق بلاد الشام، وبقي عند الشيخ مصطفى أياماً عديدة معززاً مكرماً، وقد أعطاه الشيخ مصطفى جبَّته وعمامته، وقبل أن يغادر حماة سأله أحد الحاضرين: ما رأيك بالشيخ مصطفى ؟ فأجاب: بأنه بحر لا ساحل له.
خامساً: كان الشيخ مصطفى ـ رحمه الله تعالى ـ جليلاً مهيباً محترماً بين الناس، وكان كما علمنا قاضياً في زمن الحكم الفرنسي، رفعت إليه قضية ارتكبها شخص غير مسلم قد شتم الرسول ‘ فلما مثل المتهم أمامه وتحقق الأمر حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات حسب القانون المعمول به في تلك الأيام، فقال المتهم للشيخ: حكمتني ثلاث سنوات لأنه نبيكم، فأقسم له الشيخ: بأنك لو كنت شاتماً المسيح عليه السلام لحكمت عليك بسبع سنوات.
وأودع السجن، فاتصل ذووه بالمحاكم العسكرية بالمدينة، وشكوا إليه ما حكم به الشيخ مصطفى، فأمر الحاكم بإحضار الشيخ مصطفى ولكن الشيخ رفض الذهاب مرة ومرة، وفي الثالثة حضر الحاكم العسكري إلى المحكمة، وطلب من الشيخ إخلاء سبيل المتهم فرفض الشيخ ذلك وقال له: لا أنقض حكماً أصدرته مستنداً إلى قانون وضعته الدولة، ولكنك تستطيع كونك حاكماً عسكرياً أن تركل باب السجن برجلك فتُخرج من تشاء وتبقي من تشاء، فلما واجهه الشيخ بذلك الجواب وافق على قرار الشيخ، وقال لذوي المتهم: إنه لن يخرج، لن يخرج، وأثنى على الشيخ ثناء يليق بمقامه.
سادساً: اتُّهم أحد الضعفاء في قضية هو بريء منها، فطلب أحد ذوي المتهم من أحد وجهاء البلدة التدخل لدى الشيخ في أن يتساهل، ولما نظر الشيخ في القضية وجد أن المتهم بريء حقاً، ولكن طلب الوجيه شاع بين الناس فقال للمتهم: إنك بريء حقاً، ولكن لئلا يقال بأن الوجيه فلان قد تدخل في أمرك، وأفرجت عنك بسببه، فقد حكمت عليك بالسجن أسبوعاً كاملاً حرصاً على سمعة القضاء ونزاهته ودفعاً لتقوّل المتقولين.
سابعاً: بينما الشيخ في محكمته دخل عليه المفتش العام للدولة الذي ينظر في مجريات المحاكمات والقضايا المعروضة، وقال الكاتب عند الشيخ: يا شيخي إن فلاناً المفتش بالباب، فلم يبال به الشيخ، وبقي المفتش واقفاً مع الناس يستمع لمجريات المحاكمة حتى انتهى الدوام، فحينئذ نزل الشيخ من على قوس المحكمة ورحب به وقال له: ذلك الوقت هو وقت الأمة وقد انتهى، والآن أهلاً وسهلاً، فقال المفتش: يا سيدي بكم يفتخر القضاء.
ثامناً: كان >مَحوك< تاجر غنم مشهور في حلب، حلف على زوجته يمين طلاق، وأراد أن يُراجعها فذهب إلى علماء حلب، ومنهم الشيخ مصطفى الزرقا ـ هكذا في الأصل والصواب : الشيخ محمد الزرقا ـ فلم يُرجعوها له.
وبينما هو ذاهب إلى دمشق مرَّ إلى بيت الفرداوي وقصَّ عليهم قصة اليمين فقالوا: غداً نذهب بك إلى الشيخ مصطفى، فقال: إن الشيخ مصطفى الزرقا لم يجد لها فتوى، فأخذوه إلى الشيخ مصطفى الحداد، واستمع منه، ثم أفتاه برجوعها له وكتب له الفتوى، فعاد إلى حلب وصنع وليمة ودعا إليها العلماء الذين سألهم ومنهم الشيخ الزرقا، وقبل البدء بالطعام أعطاه الفتوى فأخذ الشيخ الزرقا وقرأها ثم قبّلها ووضعها على رأسه، وكذلك فعل بقية العلماء.
هذا مع العلم بأن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ لم يُنقض له حكم أصدره وحينما كانت أحكامه ترفع إلى محكمة التمييز بمجرد ما يرون توقيع الشيخ مصطفى تعود مع الموافقة بدون أي اعتراض.
وقد سمعت من بعض الفضلاء أنه قال له: يا فلان إنني أستطيع أن أُقرِّر مسائل المذاهب الأربعة بأدلتها كما أحرِّك يدي بهذه السبحة، وأشار إلى سبحة كانت في يده.
هذا هو الشيخ مصطفى الحداد أحد شيوخ حماة الغابرين الذين طواهم الدهر، فقد انمحت آثارهم ودرست أخبارهم، حتى أن قبورهم قد طمست فرحمة الله على أولئك السادة القادة الذين نطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهيء خلفاً لهم يسيرون على دربهم، ويحملون رايتهم ويجعلون من العلم دأباً وديدناً وأنيساً وسكناً لهم اللهم آمين.
_______________________________________________
المصدر:كتاب الأنيس في الوحدة
للشيخ: محمد أديب كلكل